أعادت أحداث عكّار أمس الجيش إلى قلب الأزمة، وجعلته طرفاً مهدّداً في دوره، وعصب المشكلة، لكن العودة إلى إقفال طرق عكّار وتحويلها شبه منطقة عازلة لا يسع الجيش التحرّك فيها أو التدخّل أو ملازمة حواجزه حتى، لم تعد تكتفي بتوجيه رسائل سياسية إليه بإمكان تقييد انتشاره في الشمال، بل ذهبت المواجهة معه إلى التهديد بشلّ دوره نهائياً.
أفضت خلاصة الساعات المنصرمة إلى صورة قاتمة: تسييس النزاع بين الجيش والتيّارات السلفية التي تحاول القبض على الشمال برمته، وقد تلقت أمس جرعة تشجيع من الرئيس سعد الحريري، أوحت بموقف سنّي واحد حيال الموقف من الجيش في ملف اغتيال الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافقه الشيخ حسين مرعب.
تعكس مسحة التشاؤم هذه ملاحظات، أبرزها:
1 ــ دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد الإثنين للبحث في أحداث الشمال والسعي إلى اتخاذ قرار بإحالة مقتل عبد الواحد ومرعب على المجلس العدلي. وفي خطوة تشير إلى جدّية مقاربة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي هذا التوجّه، طلب من وزير العدل شكيب قرطباوي إعداد الإجراءات اللازمة لإحالة الملف على المجلس العدلي.
وفي ظلّ التداعيات السلبية لإقرار قانون تثبيت المياومين، وانقسام الأكثرية الحكومية والنيابية حياله، ما آل إلى تعطيل جلسة مجلس النواب واجتماعين لمجلس الوزراء، يبدو من المتعذّر التئام مجلس الوزراء قبل أن يعود الرئيس ميشال عون عن قراره مقاطعة وزراء تكتّل التغيير والإصلاح مجلس الوزراء. لا انعقاد الجلسة مؤكد، ولا التوافق على الإحالة حتمي.
2 ــ خلافاً للأحداث الأخيرة في طرابلس وعكّار، كان الجيش أمس هدفاً في ذاته، وللانتشار المسلح ضده وللعصيان عليه بعد إطلاق القضاء العسكري ثلاثة ضبّاط وخمسة عسكريين متهمين بإطلاق النار على عبد الواحد ومرعب. لم تكن الذريعة، كالمرات السابقة، دعم المعارضة السورية، ولا الاحتجاج على سلاح حزب الله، بل أحالت التيّارات السلفية المؤسسة العسكرية عدوّها المباشر، وراحت تملي عليها شروط التسوية معها بدءاً بإحالة الملف على المجلس العدلي.
لم يكن الانتشار المسلح إشعاراً بالغضب على غرار ما حصل في حادث مقتلهما الشهر الماضي، فنجمت عنه ردود فعل عفوية. رسمت أحداث البارحة خطاً فاصلاً وواضحاً بين التيّارات السلفية وقيادة الجيش، وحذّرت الجيش من أزمة مع طائفة.
3 ــ لا يزال الجيش وقيادته يتسلحان بالصمت، ويرفضان الخوض في أي جدل حيال الفلتان وانتشار المسلحين ومحاولة التضييق على تحرّكه بعدما كان قد أجرى الأسبوع الماضي إبدال الفوج المجوقل بفوج المغاوير. ترك الجيش للقضاء العسكري أن يقول كلمته.
4 ــ ليس من السهولة بمكان على مجلس الوزراء اتخاذ قرار بالإحالة على المجلس العدلي لأسباب شتى:
أولها أن القضاء العسكري وضع يده على الملف، وهو الجهة المعنية باتخاذ الإجراءات اللازمة. مع ذلك قيل الكثير في مبرّرات تؤخر صدور القرار الظني في مقتل الشيخين، عُزي بعضها إلى تراخي المؤسسة العسكرية في تقدير خطورة الحادث وتداعياته، وعدم تدارك نتائجه السياسية والمذهبية وحماية معنويات الضبّاط المتهمين. كان رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط أبرز الحاضين على استعجال إصدار القرار الظني، وربطه بتسهيل إنهاء ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في صيدا، في محاولة لمعالجة حقيقية لتنامي الاحتقان السنّي وتفادي انفجاره، وانعكاسه على الاستقرار والجيش، كما على الجميع بلا استثناء.
لم يتردّد جنبلاط في ممارسة ضغوط مباشرة بغية عدم تقليل المسؤولين، والجيش خصوصاً وأولاً، من خطورة مقتل عبد الواحد الذي لم يُطوَ في لحظته.
اضطلع جنبلاط بأكثر من دور لتخفيف وطأة التشنج والاحتقان المذهبي في الساعات المنصرمة. أوفد الوزير وائل أبو فاعور إلى رئيس الجمهورية ميشال سليمان وقائد الجيش العماد جان قهوجي، حاملاً رسالة بضرورة معالجة أحداث الشمال انطلاقاً من محاسبة فعلية من داخل المؤسسة العسكرية، مع تأكيد جنبلاط ــ تبعاً لما نقله أبو فاعور ــ رفضه التعرّض للجيش من الخارج. في المقابل لمس أبو فاعور جدّية رغبة قيادة الجيش في حلّ المشكلة. بدا قهوجي متهيّباً ومتفهّماً خطورة ما حصل منذ مقتل عبد الواحد والحاجة إلى إجراءات حقيقية.
ثانيها، تمثّل إحالة الملف على المجلس العدلي سابقة لم يعرفها القضاء، ولا حكماً السياسيون اللبنانيون. لم يكن مقتل عبد الواحد جريمة سياسية تحتّم المواصفات تلك الإحالة على غرار سوابق اشترك في بعضها عسكريون. وليس الحادث محاكمة لمرحلة سياسية تشبه إحالة ضبّاط الشعبة الثانية في الحقبة الشهابية على المحاكمة عام 1972. مع ذلك مثلوا أمام محكمة عسكرية. نجم مقتل عبد الواحد برصاص الجيش عن التباس من غير أن يكون متعمّداً. لم يدخل حتماً في نطاق صراع سياسي.
ثالثها، أن أكثر من فريق في الحكومة، شيعي ومسيحي، لن يتساهل مع إحالة الملف على المجلس العدلي. كذلك رئيس الجمهورية القائد السابق للجيش، الذي يعي مغزى التشهير بالمؤسسة العسكرية وتقويض هيبتها ومعنوياتها، ووضع ضبّاط وعسكريين في قفص الاتهام في محاكمة علنية، بينما ترعى الأنظمة العسكرية الأصول التي تتبعها القيادة لمحاسبتهم ومعاقبتهم. لقيادة الجيش موقف مماثل، رغم أن القرار تصدره السلطة السياسية، هو عدم الموافقة على إخراج الملف من القضاء العسكري إلى المجلس العدلي الذي يختلط فيه القضاء بالسياسة.
5 ــ رغم أن أحداث عكّار حجبت الظاهرة الاستعراضية للأسير، بيّنت هذه الغطاء المذهبي الذي تلطّى به السياسيون لمنع إنهائها. وعلى وفرة انتقادها الأسير ورفضها أسلوب اعتصامه، لم تتحمّس القيادات السنّية، وأخصّها تيّار المستقبل، لرفع الغطاء السياسي والمذهبي عنه، والطلب من الجيش وضع حدّ لظاهرة تتعمّد استفزاز الجميع وخصوصاً الجيش. لم يتوخَّ الغطاء السياسي لظاهرة الأسير سوى إرساء معادلة هشّة توازن السلاح الشيعي بآخر سنّي، يستكمل ما كان قد بدأ في طرابلس وعكّار ولا ينتهي بالضرورة عند أبواب صيدا.
لم يخفِ قائد الجيش أمام مراجعيه أنه لن يواجه اعتصام الأسير كي لا يجد نفسه يجبه طائفة، لكنه يتحرّك بقرار تتخذه القيادات السنّية بالطلب من الجيش إنهاء الظاهرة تلك.
يذهب البعض المعني بمتابعة ملف الأسير إلى الاعتقاد بأن الجيش وحزب الله ــ وكلاهما معني باعتصامه ــ لن يتحركا، ويفضلان تركه يتآكل من تلقائه ويهترئ تدريجاً بعدما أمسى عبئاً على نفسه وبيئته، وعلى الطائفة. لن يسمح الجيش وحزب الله للأسير بالسيطرة على طريق الجنوب ـــ بيروت أو محاولة قطعها، ولا حكماً كما يلوّح بفصل الجنوب عن شماله. يذهب هذا البعض المعني إلى الاعتقاد أيضاً بأن ظاهرة الأسير أضحت سنّية ــ سنّية، ثم صيداوية ــ صيداوية، وأخفقت في التحوّل دافعاً لنزاع سنّي ــ شيعي. في وسع حزب الله ابتلاع تداعياتها الموقتة إلى إشعار آخر، بعدما ابتلع كل هذا الكمّ من الإهانات التي ساقها الأسير بنبرة عالية إلى الأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله، ما دام استطاع ابتلاع خطف 11 حاجاً شيعياً في حلب باتوا الآن أكثر من أي وقت مضى في مهب المجهول.