وبديهي التأكيد أن العدو الإسرائيلي لم يكن وحده من خاض تلك الحرب التي أرادها حاسمة وفاصلة، تنهي مبدأ المقاومة فضلاً عن مجاهديها بقيادتهم الباسلة وجمهورها العريض الممتد نشطاً وفاعلاً بين المحيط والخليج.
كان العالم كله، تقريباً، وأهل النظام العربي بمجملهم، شركاء فعليين في الميدان، يساندون العدو الإسرائيلي ويعززون قدراته الهائلة (بشهادة وزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس)، بهدف القضاء على فكرة المقاومة.
بل يمكن القول إن تلك الحرب كانت جولة إضافية لاستكمال ما هدفت إليه معاهدة سايكس بيكو، وما قصده وعد بلفور، بمداه الأبعد، بحيث تصير إسرائيل «الدولة» ذات الهيمنة المطلقة، تفصل بين المشرق والمغرب و«ترعى» من حولها أنظمة طوائفية، معادية بطبيعتها الكيانية لطموحات «رعاياها» الوطنية ولحقوقهم في بلادهم التي تتحول إلى «محميات».
ولقد كانت المقاومة طليعة شعبها يحضنها ويحصّنها ويحميها، بعدما حازت ثقته ودعمه وتقدير الأمة جميعاً، عبر جهادها المتواصل طيلة عقدين، تقريباً، وتطهّرها من الغرض كطلب السلطة أو السعي إليها، ومن الطاعون الطائفي وإيمانها العميق بقداسة الأرض، وأن الجهاد لتحريرها وحفظها من الإيمان.
كانت الوحدة الوطنية شرطاً للنصر.. وهي تأكدت عبر التفاف الشعب الذي بادر أبناؤه إلى فتح بيوتهم والمدارس والأديرة والمؤسسات، في مختلف أرجاء لبنان، لاستقبال مئات الآلاف من المواطنين الذين اضطرتهم الغارات الإسرائيلية إلى ترك مدنهم وقراهم، في الجنوب كما في الضاحية الجنوبية وبعض بيروت وأنحاء الجبل والشمال والبقاع.
لكن النصر باهظ التكاليف، خصوصاً أن أهل النظام العربي قد انحازوا ـ بأغلبيتهم ـ إلى صف العدو، مفترضين ـ عن حق ـ أن انتصار المقاومة في لبنان سيشكل تشجيعاً، بل تحريضاً، «لرعاياهم» ضد طغيانهم وانحرافاتهم وخيانتهم الأمانة.
فالمقاومة الوطنية، في أساسها وجوهرها، هي حرب على الطائفية والمذهبية وسائر أسباب الشقاق والفتنة، بما هي نداء للتوحد ضد العدو الوطني والقومي (والديني؟).
وتجربة المقاومة الفلسطينية ناطقة: ساندتها جماهير الشعب ونافقها الحكام الذين خافوا من زخمها الجماهيري، ثم التفوا فضيّقوا على قيادتها، وحاصروا مجاهديها، ودفعوها إلى «الخاصرة الرخوة» ـ لبنان، حيث تهددها خطر الانحراف نحو السلطة التي هي تسلط، وضربها السرطان الطائفي للنظام اللبناني فإذا هي «طرف» في صراع داخلي يستنزفها ويحرفها عن مسارها الأصلي.
.. وهكذا جاءت الحرب الإسرائيلية فرصة لانكشاف مواقف أهل النظام العربي جميعاً: فشل الجيش الإسرائيلي في إحراز النصر، فتكفّل أهل النظام العربي بمحاصرة المقاومة وقيادتها بما هو أفعل من الدبابات والطائرات الأسرع من الصوت والصواريخ المدمرة: شنوا عليها الحرب الناعمة بالسلاح الطائفي ـ المذهبي الفتّاك.
باشر أهل النظام العربي حربهم بمحاولة القضاء على النصر بإغراقه في المستنقع الطائفي، وتحويل المقاومة إلى ميليشيا مذهبية... وساعدتهم تل أبيب وواشنطن وبعض العواصم الغربية بمطاردة المجاهدين بحملات سياسية ـ إعلامية صاخبة تصورهم قتلة محترفين وتجار مخدرات ومزوّري عملة. وكان طبيعياً أن تشارك «القاعدة» في هذه الحملة... ثم أن تتوسع الحملة لتشمل عواصم عربية عدة فيوجّه نظام الطغيان في مصر إلى المقاومة تهمة الإعداد لانقلاب، عدته بضعة مجاهدين كانوا يحاولون إيصال قدر من المساعدات إلى الشعب الفلسطيني في غزة المحاصرة. وعندما تحرك شعب البحرين مطالباً بحقوقه البسيطة في «المملكة» وجهت تهمة التحريض المذهبي إلى المقاومة. ثم تمددت الحملة لتشمل دول الخليج عموماً، وشنت أجهزة الإعلام في السعودية وما حولها حملات مسمومة على قائد المقاومة ومجاهديها، تجاوزت السباب المباشر إلى اتهامه بالجبن و«تعييره» بأنه يختبئ ولا يظهر على الناس، مع علم العالم أجمع أن الطيران الحربي الإسرائيلي يحوم فوق الضاحية على مدار الساعة، فإذا غاب حلت «البالونات» محله في رصد تنقلاته وضيوفه واتصالاته.
كان ضرورياً لأهل النظام العربي أن يشوّهوا مبدأ المقاومة وأن يحقّروا أبطالها، ولو أدى الأمر إلى إشاعة مناخ الفتنة الطائفية والمذهبية، أو استدرج الاتهام لمنظميها بأنهم يخدمون العدو الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة الأميركية، بداية وانتهاءً. ولقد شاركت الإدارة الأميركية بضراوة في هذه الحملة، فطاردت كل من تشتبه بأنهم قد يوالون المقاومة، ووجهت الاتهامات بتبييض العملة والاتجار بالمخدرات، ثم جاء الاتهام بأنهم «عصابات» ينظمون محاولات اغتيال لمسؤولين إسرائيليين في تايلاند وفي أميركا اللاتينية فضلاً عن بعض أنحاء أوروبا، وتم التضييق على الرعايا اللبـنانيين المشـتبه بتأييدهم المقاومة في أنحاء الجزيرة والخليـج... وصولاً إلى أفريقيا، وهم كانوا بين أوائل من وصل إليها وساهم في عمرانها.
في هذا السياق توالت الاتهامات لقياديين في المقاومة بتنظيم الاغتيالات السياسية، وأخطرها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لتسميم الجو الداخلي، وضرب ركائز الوحدة الوطنية، وتحويل المجاهدين إلى قتلة... لأصدقائهم وبعض أهم المساعدين ـ ومن موقع المسؤولية ـ للمقاومة في جهدها المبارك من أجل تحرير الأرض الوطنية. ودخلت «المحكمة الدولية» طرفاً على الخط، لإضفاء البُعد الدولي على هذه الحرب الشاملة، والتي لم يوفر فيها أي سلاح.
في هذا السياق، وضمن هذا المناخ، حاولت إسرائيل الوصول إلى قائد المقاومة السيد حسن نصر الله، واغتياله، حيث قضت ظروف الحصار القاسي بأن يكون.
فالمطلوب، أولاً وأخيراً، تشويه صورة المقاومة ومجاهديها، وتحويلها إلى ميليشيا طائفية أو مذهبية، بحيث يتم إغراق مبدأ المقاومة في وحول الفتنة.
وهذه الحرب التي تُشن بألسنة عربية وبأقلام عربية، لا فرق بين أن تكون مأجورة أو مأمورة أو مضللة، أقسى بما لا يقاس من الحرب الإسرائيلية... لأنها تشيع مناخ الفتنة والشقاق في طول الأرض العربية وعرضها.
فأمر اليوم، الأميركي ـ الإسرائيلي، وضمنه أهل النظام العربي، القضاء على فكرة المقاومة... وأن تنصرف الشعوب العربية عن مطالبها في نيل حقوقها في أوطانها ومواجهة خصوم حاضرها وأعداء وجودها وحقها في غدها الأفضل، إلى فتن تحرق الأرض ومن عليها، فتحقق لإسرائيل النصر الذي عجزت عن إنجازه بكل قوتها الحربية الجبارة.
[ [ [
في هذا اليوم الأغر، الذي فتح الصفحة الأولى للغد الأفضل، يقتضي الواجب أن نوجه تحية عطرة إلى قائد المجاهدين إلى النصر، حامي الوطن ووحدته، السيد حسن نصر الله.
شكراً، لقد أعطيت هذه الأمة عيداً، بأن أعدت إليها الإيمان بقدراتها في سعيها إلى غدها الأفضل.. وكل عام وسماحتك وكل المجاهدين من أجل حقوقهم في أوطانهم بألف خير.