أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

علـى هامـش حـرب بـدأت قبـل سـت سـنوات

الإثنين 16 تموز , 2012 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,057 زائر

علـى هامـش حـرب بـدأت قبـل سـت سـنوات

كانت المدينة ساكنة بعد سنة من الحراك والحراك المضاد. من الدم والجنون والكره المتبادل المتغلغل حتى النخاع، المنتقل بالحليب إلى الرضّع.

كانت المدينة تعيش فصامها الأبدي: مرتع ملذات أثرياء اللبنانيين والعرب، وفخر العرب وبوابة التحرير في آن. 

بيروت المناضلة، الكاتبة، القارئة، الرائدة، المبدعة، المقاومة والأبية، منبت الشهداء الذين ثاروا على الجوع الظلم والاستعباد والاحتلال، المنتصرة في دحر الأعداء، أم الفقير وإن غرزت خناجرها في خصره أحياناً. 

لكنها أيضاً بيروت الشقق التي ترمح بين غرفها الخيول، والسيارات الفارهة، واللقاءات التافهة، و الـ«هاي بونجور سا فا»، والجاهلة المتسمرة أمام شاشات النقل الحي الرديء والأغنام التي تقترع الأوراق كما تطبع، تعيد إنتاج ظُلّامها وفاسديها ومفسديها. بيروت المغناج التي لا تتورع عن الفحشاء لاهثة خلف أي نوع من أنواع «المجد»، حتى وإن كانت بوابته جائزة كمثل إعداد أكبر كوب ليموناضة في العالم. 

كم بيروت في المدينة المحتشدة، الحاضنة للجميع، والطاغية الطاردة لهم في آن؟

كم بيروت في كل منّا؟ 

كانت المدينة تستريح في المقاهي المكيفة، تخطط لنهارات مشمسة على الشواطئ المكلفة، وليالٍ ملاحٍ في مراتع تنتشر في الأحياء كلها.

لماذا؟ لماذا جلس في ذلك الصباح، من يخطط، ويصبر، ويدرس، ويعمل، كي يستعيد، من عيتا، بعضاً من الكرامة المهدورة؟ 

من طلب منه ذلك؟ 

أسرى؟ شهداء؟ فلسطين؟ فقراء؟ كان ذلك كله في بيروت أخرى، تعاقبت السنوات وتراكمت الأموال ونيات السوء ورجالاته، والعمل الدؤوب الخبيث لمحوها، وتمويه ناسها، وتغييرهم وتحويلهم إلى مستهلكين يستحقون الدخول إلى جنة عالم الاستسهال الفارغ، المعاصر، «الحديث». 

ضاعت 33 يوماً من صيف كان واعداً لأصحاب الملايين. هذه فقط هي حسبتهم.

لا شهداء، لا أطفال في العراء، لا ثكالى، لا أيتام، لا «قمصان سوداء» منشورة على حبال الغسيل، لا دماء، لا أسلحة محظورة، لا مدن ممحوّة، لا وخزة ضمير حتى. كؤوس ترفع تحية «لجيش الدفاع» الصهيوني، ودموع تماسيح تلفزيونية نقلت «مباشرة» على «الأهواء»، يكاد سببها يتّضح اليوم: لقد انتصر لبنان في تلك الحرب، عسكرياً، والكل كان يدرك ذلك، وإن كانوا يكذبون مكابرين.

[[[

كم من المقاومين نام في العراء؟ كم ليلة؟ كم منهم قطع البراري والأشواك الفاصلة بين القرى، حفاة، جياعاً، عطشى؟ كم منهم استشهد من أجل أن نحيا؟ كم منهم انتزع بيديه وحدهما حق قومه من بين أنياب عدو مدرّع من رأسه حتى أخمص قدميه، بسلاح أنتج في الولايات المتحدة بأموال نفط عربية؟ 

كم صرخة أطلقوا كي يرعبوهم ويعيدوهم من حيث جاؤوا، إلى أرض ليست أصلاً لهم؟ كم سنة أمضوا في التدرّب والتأهل كي يقدموا لنا ما يؤمنون بأننا نستحقه من حياة؟

كم امرأة طهت لكم؟ كم مسناً ساعدكم؟ كم طبيباً بقي على امتداد 33 يوماً يسعف أهلكم وأبناءكم؟ 

كم أسرة احتضنت من هُجروا قسراً، كم من اللبنانيين تعرّف أخيراً الى وجه «الآخر» الذي حرمه الطغاة منه منذ أن تقررت إقامة هذا الوطن الهجين؟ كم مسعفاً قتل على متن سيارات الإسعاف؟ 

كم طفلاً جديداً زرع في حقول قانا؟ كم أسرة أبيدت في الطريق بين طير حرفا ومروحين؟ كم وردة أينعت في القاع؟ من أحصى طوائف الدماء التي سالت على امتداد الوطن، من جنوبه إلى شماله، ومن غربه إلى شرقه؟ تُرى، هل يختلف لون الدم بحسب القيد الطائفي؟

[[[

من يذكر اليوم الطبيب عبد الناصر فياض، الذي كان ينتقل بين قرى النبطية على امتداد 33 يوماً، يسعف من يحتاج اليه، ويأوي من يفتقر إلى مأوى، ثم أرخى رأسه على مخدته في اليوم الرابع والثلاثين - تحديداً - ورحل؟

من يذكر الحاجة زهرة شعيتو التي بقيت تحت ركام منزل ابنتها على امتداد ثلاثة أيام، ولما انتهت الحرب، رفضت الدولة التكفّل بكامل علاجها، لأنها لا تملك الدليل على أن ما أصاب المرأة التي ماتت قبل عامين، سببه عدوان تموز؟

من يذكر هويدا التي فقدت مع عينها، أباها وأخاها، وبقيت جميلة، ولم تجد إلا دولة الإمارات لتتكفل بعلاجها؟

من يذكر مسنّات عيناثا ومسنّيها الذين دفنوا تحت ركام المنزل الذي كانوا لجأوا إليه؟

من يذكر الرضيعة وعد التي كانت في يومها العاشر عندما تمكّن المسعف، بعد مساع حثيثة، من انتزاع يدها من يد أمها التي كانت تطبق عليها حين دمرّ صاروخ الأعداء المنزل فوق رؤوس كل ساكنيه؟ 

من يذكر هنادي سليمان (وليس سلمان) التي تركت ابنتها في الثانية من عمرها، قسراً، لأن نيران العدو قتلتها في بورداي في بعلبك؟ 

من يذكر علي غضبون الذي كان ينقل الخبز إلى من بقوا في بيوتهم في قانا، ففصل صاروخ الأعداء رأسه عن بقية جسمه؟

من يذكر أسماء ضحايا ذلك العدوان الصيفي؟ من يذكر ما أصاب معظمنا؟ من يسأل عمن بقوا اليوم؟

من يذكر اليوم بعد أن عدواناً وقع على هذه الأرض قبل ستة أعوام فقط، وبأننا، على الرغم من كل الخسائر، انتصرنا؟ عدنا، عند فجر اليوم الأخير، نعيد تشييد منازلنا، أكبر وأصلب، على مشارف المباركة، فلسطين؟

[[[ 

لم تغلبنا إسرائيل يوماً. 

لم تغلب إسرائيل العرب يوماً. نكبات، نكسات، حروب، فلتسمَّ بأي اسم. لم تنتصر إسرائيل يوماً. كنا نحن دوماً ننجز المهمة. نحن نكره أنفسنا، ونكره الآخر الذي منّا ومثلنا، ونحن نستصغر أنفسنا، ونحن نهزم أنفسنا، ونحن نربي أبناءنا على الخوف، والضعف، والقنوط واليأس. نحن نستسهل العيش ونرضاه ذليلاً، ولا نملك من الإيمان ما يكفينا للانتصار على أنفسنا أولاً.

ما إن يخرج ماء الخلاص من الأرحام حتى يكون جواز سفر بلاد أخرى جاهزاً «لتأمين غد الوليد». كأن من يولد هنا هو حكماً بلا غد. كم من بيننا مازال مؤمناً بأن الغد لنا، هنا، وبأننا وحدنا نحميه. نصنعه كما نشاء، نزيّنه، نرسمه كما نريد ونعمل بكد لإنجازه ثم نحياه كراماً؟ 

نحن نهزم أنفسنا، واسرائيل تتباهى بكل نصر نقدّمه لها مجاناً. 

[[[

نحن انتصرنا على إسرائيل: في صمود الفلسطينيين فوق أرضهم منذ 64 عاماً ننتصر كل يوم. في الإيمان بحقنا، في نقل إيماننا إلى أبنائنا. في الانتفاضتين الأولى والثانية، والانتفاضات الكثيرة الآتية.

في الكلمات التي نكتبها، في الرسوم التي نبتدعها، في الأغاني التي نتناقلها من الأجداد، في التجديد الحي في داخلنا، في الغد المتّقد فينا. إسرائيل لم تربح في العام 1948، العرب تخلوا عنها طمعاً في ألقاب طنّانة فتّت الوطن الكبير.

وفي حرب السادس من حزيران، هَزَمَنا استهتارنا.

نحن انتصرنا على إسرائيل في سيناء في العام 1973: ساستنا هزمونا.

نحن أخرجنا إسرائيل من لبنان. نحن انتصرنا، عسكرياً، ومعنوياً، في العام 2006.

اليوم، لم يعد العدو يجرؤ على «المغامرة» في لبنان. 

اليوم، ليس العدو بحاجة لذلك. في لبنان، ومن بين أهله، من يعمل على هزيمتنا كل يوم. 

بالجوع، بالظلم، بالقهر، بالترهيب والترغيب، بترويج قناعة مفادها أننا لا نستحق إلا فتات ما يرمونه لنا من نثر حياة. بالقلم المأجور، وبالسياسة، بالترفيه «المخدِّر»، بالبطالة، بالجهل. بالقتل المتعمّد للمدارس الرسمية والجامعة التي أريد لها أن تكون وطنية بلا جدوى، بالتحقير، بامتهان الكرامة، بالغلاء، والاستعلاء، بالمخدرات، بالعيش بلا نور أو ماء، بالموت المجاني على الطرق، بالسلاح العشوائي بين أيدي من لا يتجهون جنوباً، بقهر المرأة وانتزاع حقها الإلهي بأولادها. بإذلال اللاجئين من فلسطينيين الذين لم يبدلوا وجهتهم يوماً. باحتقار سائر اللاجئين من فقراء الأرض الهاربين من الموت المحتم إلى الذلّ اليومي. بإخراج العملاء من السجون، وإهمال الأسرى والأبطال وتركهم ضحايا المرض والعوز. بالــترويج للخطأ وطمـس الحق.

بإشعال نار الطائفية كي تستعرَ وتقضي على الجميع.

من يذكر اسماً واحداً من أسماء أبطال عدوان تموز؟ من يعرف كيف يعــيش هــؤلاء؟ من يعرف مما يعتاشون؟ مَن، في هذه الأرض التي تُدعــى زوراً وطناً، يعرف من دافع عنها وحمــاها؟ من يكــترث ومن يريــد أن يعرف؟ 

من يعرف ماذا تعدّ المقاومة لتحمي غد أولادنا، نحن الذين بلا جنسيات أخرى، عن سابق إصرار وتصميم؟ 

في النهاية، المقاومة ليست دولة، وليست حزباً ببرنامج داخلي متكامل، وليست، قطعاً، منزّهة عن الأخطاء. والمقاومة ليست رجلاً واحداً، أو جسماً واحداً، هي مثلنا، تشبهنا: بين صفوفها مكونات الخلق كلها. أما المقاومون، فهم، تعريفاً، يقاومون عدواً خارجياً.

إلا أن العدو الكامن بين أبنائها، من أهل الوطن، يستشرس يوماً بعد يوم، ويكاد يتباهى بأنه سينجز ما عجز عن إنجازه العدو.

لم تنته الحرب على المقاومــة بعد. إلا أن في الخــلط بين من يطالبها بالمزيد كي يحيا كريماً، وبين من يصوّب عليــها لاقتلاعــها، مقتلاً. وتحصين البيت الداخلي لم يعد ترفاً، بل بــات مقومة أســاسية من مقــومات البقاء.

اليوم، أبناء المقاومة والمؤمنون بها يطالبونها بإنجاز العزة في الداخل. أما الفئة الأعلى صوتاً، فهي تلك التي لا تريد لهذا الوطن أن ينتصر يوماً، وهم لا يرون نصره إلا بامتلاء جيوبهم بالمزيد من الأموال المسروقة من عرق الآخرين وخبزهم. 

وبين هؤلاء وأولئك، تقبع أقلّية، أو غالبية صامتة، تؤمن بالحق، لن تنسى يوماً من ردّ عنها الضنى، ولن تغفر لمن يمضي في قتل غدها.

لن ننسى، ولن نغفر.


Script executed in 0.17788195610046