ذكريات مسكوبة في قوالب مصوّرة في الأذهان، في الأحاسيس، في رائحة خوف مريبة، في انتظار أم وأب وابن، بقلق وأرق. من حديث إلى آخر، من ذكرى إلى أخرى، يعرّج صاحب الذكرى إلى خيط ضبابي، متذكراً كلمة شهيرة: «المقاومون».
بعدسة تبدو لصاحبها مكبّرة، يتذكر أن المقاومين دحروا العدوّ الإسرائيلي، قاتلوه بحنكة وشراسة. يتذكر فصلاً من قصة سمعها عن مقاتل، وربما يتذكر عناوين القصة: بندقية، قاذف مدفعي، بطولة، تحد، استشهاد، فانتصار.
نُسجت قصص عدة عن المقاومين، بعدسات شتّى، إلا أنها لم تخرج من إطارها المصغّر، مثل مقاتل في معركة يسخّر تركيزه على عدسة التصويب: كانوا يتحدثون عنهم في نسق بوليسي، متحرر من قصص التحدّيات، غير البوليسية ـ العسكرية، التي تنبت قبل المعركة وفي خلالها.
من شارك في حرب تموز وخذله الموت، أضحى معروفاً بين أترابه: «فلان كان في الحرب، وسمعتُ أنه نام تحت الأنقاض أياماً عدة، ثم عاد إلى القتال بشراسة»، يقولون عنه همساً.
يتبسم الشاب، بعدما استحال الهمس علناً، ويجيب بخجل: «لم أشارك في الحرب». يستمع إلى براهين عدة، مثل «لكن فلان أكّد ذلك»، فيوضح: «لقد طُلب منّي أن أعدّ الطعام للمقاتلين».
تربط المقاتل أواصر القربى بمحدّثه، الذي يعرف، مثل بقية أترابه، أنه في المقاومة. مع ذلك، يصرّ على أن مهمته تجلّت في إعداد الطعام، فيما قريبه عرف، من زملاء المقاتل أنفسهم، أن الشاب نام تحت الأنقاض، في أرض المعركة، أياماً عدة، ثم نهض وقاتل العدوّ وجها لوجه.
يدرك محدّث المقاتل، أن قريبه لا يفصح عن مهمته لسبب واحد: «بدافع الخجل. فهو، وكل الذين قاتلوا في الحرب، يعتبرون أن الحديث عن قصصهم البطولية، سواء لأقرب المقرّبين ـ حتى أمهاتهم ـ أم للأصدقاء، ضرب من ضروب التبجّح، فيطردونه بخجل».
عندما كان فتياً، ولما كان يُسأل عن طموحه في الحياة، كان ثمة جواب واحد: «في المقاومة». ولما أصبح مقاتلاً، بعد مرور الأعوام، عرف أن المقاومة، ككلمة، فضفاضة، هادئة، لا تحمل، في كلمتها، جوانب أخرى مخفية، خاصة، صاخبة.
المقاومة العسكرية، في تحولها من كلمة إلى واقع متخيّل، ترسم مشهداً أساسياً: رجلاً يحمل بندقية، مرتدياً بزة عسكرية، ينتظر موعد الاشتباك مع العدوّ، فيطلق النار في صدره، ثم يسقط شهيداً.
هكذا، بهدوء متخيّل مبسّط، تُرسم صورة عند من يتذكر مقاوماً سقط شهيداً، أو عاد حزيناً لأن الموت خذله. تخيّل محق، ربما، لأن المتذكر، المحدّث، لم تطأ قدماه أرض معركة قتالية قط، فيحسب أنها جولة قتال تعتمد، في الدرجة الأولى، على مستلزماتٍ قتالية.
يغفل صاحب الذكرى، سهواً، أن المقاتل ترك الأهل، من الأم إلى الأب والزوجة والأولاد، في أرض لن يعود إليها، إلى أرض مخضبة بدماء، دفاعاً عن الأرض التي تحمل 18 طائفة.
ثمة من سنحت له الفرصة في توديع الأهل، وثمة من ترك أمه في المستشفى، مرسلاً إليها رسالة اعتذار: «لم أكن إلى جانبك ولن أكون هنا، فإنني متوجه إلى حتفي، كي تحيي، ويحيا كل من هم في الوطن، وطني».
صاحبُ الذكرى لا يعرف رائحة التراب كيف تكون قبل المعركة، كيف تجلب مع حبّاتها الحنين إلى ابنة تُركت في سريرها بلا وداع، إلى زوجة قالت لابنها الصغير إن «والدك مسافر، ربما يعود وربما لا، فلا تحزن»، إلى أم انتظرت سماع خبر حتف ابنها بابتسامة باكية، إلى أب ربّت على كتفي ابنه قائلاً: «اليوم، أنا أتعلّم منك يا ولدي».
من يتذكر حرب تموز، ربما ينسى، أم أنه لا يعرف، أن دويّ الرصاص يملأ القلوب بالذعر ويمتحنها، فيذكرها بالأم والأب، بالحنين إلى من تركهم للمجهول بلا العماد الأساس، دفاعاً عن الوطن.
صاحب الذكرى ينسى، أم أنه لا يعرف، أن حشو عربة الصواريخ لا يحتاج إلى سواعد سمراء صلبة فحسب، لا يعرف أن السواعد قابلة لأن تُبتر قبل الرمي، لا يعرف أن أصوات الصواريخ المحاذية تُرهب أشجع مقاتل، فتحرّضه على الهروب، لكنه يبقى برأس مرفوع.
من يتذكر حرب تموز، لا يعرف أن الوصول إلى أرض المعركة، قبل المضي قدماً في القتال، لا يحتاج إلى تأهيل عسكري فقط، لا يعرف أن الموت في تلك اللحظة وبعدها، يتجلّى بجسد يطارد حامل البندقية، يلاحقه من ركن إلى ركن.
صاحب الذكرى لا يعرف أن حامل البندقية يعيش، اليوم، بيننا، مثل شبح خجول، كما لو أنه فتى مازال يحدّث نفسه عن طموح قريب: «في المقاومة»، لكن الفتى، لم يعد فتياً: «الموتُ بالنسبة إلينا طريقُ صُنع حياة»، يقول لنفسه، مستعيراً العبارة من «السيد».