بعد ترحيلهم من قبل الأمن العام اللبناني، خضع المرحـَّلون السوريون الأربعة عشر فور تسلمهم من قبل السلطات السورية، للإجراءات التي تتبع في مثل هذه الحالات، ومن ثم تم الإفراج عنهم. وبحسب المعلومات، فإن بين هؤلاء من بدأ بإجراءات العودة الى لبنان خاصة أن قرار ترحيله لم يقترن بمنع دخول إلى الاراضى اللبنانية.
بديهي القول هنا ان افراج السلطات السورية عن المرحـَّلين من دون التعرض لأي منهم، يفترض ان يجيب بالدرجة الاولى على من لوّح بقميصهم ورفع الصوت لنجدتهم وصنف البعض منهم على انهم «ناشطون في المعارضة السورية»، واثار المخاوف على حياتهم، وهنا يطرح السؤال الآتي: لو كان بين المرحـَّلين السوريين، ناشطون معارضون للنظام السوري، هل كانت السلطات السورية لتفرج عنهم؟
ومن استمع في الوقت نفسه الى شهادات متلفزة لبعض ذوي المرحلين من المقيمين في بيروت، استنتج أن بين المرحلين من يدينون علنا بالولاء للنظام السوري، ومن سمع كلام أحد القضاة المحسوبين على «فريق 14 آذار» حول الملفات التي أصر الأمن العام على اعادتها للقضاء رافضا ترحيل أي مواطن سوري من المعارضين للنظام، لأدرك أيضا أن وليد جنبلاط ومن سار في ركبه، تسرعوا بتبني قضية خاسرة.
في هذه الحالة، لماذا ضُخمت حادثة الترحيل سياسيا، علما ان الكثير مثلها قد حصل سابقا، كإجراء قضائي طبيعي في عهد حكومة سعد الحريري، وقبله في عهد حكومة فؤاد السنيورة الذي سارع وفريقه الى الانضمام الى جنبلاط في الحملة على الامن العام وصولا الى مطالبة البعض باقالة مديره اللواء عباس ابراهيم؟
منذ اللحظة الأولى، بدا رئيس الجمهورية ميشال سليمان متفهـِّما لخطوة الترحيل التي تبررها الوقائع والاثباتات التي عرضت عليه، والرئيس نجيب ميقاتي كان اكثر من متفهـِّم لا بل كان جريئا في مسارعته الى تغطية المدير العام للأمن العام، مثله مثل وزير الداخلية مروان شربل، كما أن الرئيس نبيه بري يعرف عباس ابراهيم جيدا وكيف «اثبت دائما انه تحت القانون».
هذا الغطاء الرسمي امنته خطوة الترحيل نفسها، اولا، لبعدها الجنائي الصرف، خاصة وأن بيانات الامن العام بدت شديدة الوضوح، وثانيا لانها كانت مدروسة بكل تداعياتها وابعادها القانونية.
ويعرف رئيسا الجمهورية والحكومة تحديدا، أنه يوجد على مكتب عباس ابراهيم، ملف كبير، يضم أسماء مئات السوريين المعارضين، وبينهم حالات مسلحة، وتكفي اعترافات أحد الموقوفين، عند القضاء اللبناني وليس الأمن العام، حول اقدامه على ذبح عشرة عسكريين سوريين بالساطور في منطقة القصير الحدودية، واصفا كيف ارتكب فعلته بدم بارد، ورافضا أن يتراجع عن حرف واحد من افادته.
وبرغم إلحاح القضاء اللبناني، على ترحيله، ومطالبة السلطات السورية بتسلمه وغيره مرارا وتكرارا، حاذر الأمن العام الاقدام على أي عملية ترحيل ذات طابع سياسي ـ أمني، وثمة حالات ارتكبت فظاعات أيضا، موقوفة في سجن روميه وملفاتها معروفة عند جهات لبنانية ودولية.
وبحسب اوساط قيادية في الأكثرية فإن جنبلاط «أعاد تذكيرنا بواقعة الكاميرا المنصوبة على أحد «الكونتينرات» قرب أحد مدرجات مطار بيروت من أجل اغتياله، وهي القصة التي استدرجت حكومة فؤاد السنيورة الى قرار اقالة وفيق شقير وقرار تفكيك شبكة اتصالات «حزب الله» في الخامس من ايار 2008، وصولا الى السابع من ايار.
ويقول القيادي نفسه «كان يمكن ان تنحصر الحملة في نطاقها الجنبلاطي، او أن تعد واحدة من «لحظات التخلي» عند وليد جنبلاط، الا ان ما عزز الريبة هو مسارعة «قوى 14 آذار» الى ذرف الدموع على المرحـَّلين السوريين وملاقاة جنبلاط في دعوته الى اقالة ابراهيم، وصولا الى التناغم الدولي مع الحملة».
وتشبه الاوساط القيادية الحملة بحجر يراد له أن يصيب مجموعة اهداف دفعة واحدة:
- اللواء عباس ابراهيم لما يمثله من جهة، من رمزية امنية، تغرّد خارج دائرة التوظيف السياسي، وتقرر السير على الاشواك السياسية لأجل اولوية العمل المهني ومن هنا كانت عملية توقيف شادي المولوي التي إن كشفت كل التفاصيل المحيطة بها ستحرج كثيرين، ولما يمثله مدير عام الأمن العام من جهة ثانية، من رمزية سياسية، ثبتت فعالية دورها في الكثير من المحطات، وخاصة تلك التي كان وليد جنبلاط طرفا مباشرا فيها.
- الامن العام كمؤسسة، لزرع الشك حولها واتهامها بالانحياز تارة لطائفة معينة، وتارة أخرى بأنها تأتمر من «حزب الله» وحركة «امل»، وتارة ثالثة بأنها «عميلة» للنظام السوري وتحاول اعادة تكريس النظام الامني اللبناني ـ السوري.
والهدف، تقول الاوساط القيادية في الاكثرية، «محاولة تدجين مؤسسة الامن العام واخضاعها، وحملها، على الاقل في الشق المتعلق بالازمة السورية، على ان تقتدي بأجهزة امنية اخرى تنظر الى الحدث السوري بعين واحدة ووفق رغبات وتوجهات المنخرطين في جبهة العداء للنظام، وليس بعينين اثنتين كما هو حاصل في الامن العام».
- الحكومة، ومحاولة القصف عليها من منصة ترحيل الـ 14، وقد اعطى رئيس «كتلة المستقبل» فؤاد السنيورة اشارة واضحة لهذا الاستهداف عبر «تحريض الدول» على الحكومة ورئيسها.
ولعل ما سيوقف كثيرين أن جنبلاط هو من تصدر الحملة على مدير الامن العام، بعدما كانت تجمعهما وتحديدا منذ 11 ايار 2008، علاقة اختلط فيها العامل الشخصي بالامني والسياسي وصولا الى تحوّل عباس ابراهيم في الكثير من الاحيان الى مفكك ألغام وباني جسور، سواء بين جنبلاط و«حزب الله»، او ضمن البيت الدرزي نفسه وتشهد على ذلك جولاته من موقعه كنائب لمدير المخابرات على المراجع الروحية الدرزية، وكيفية معالجة موضوع «الداعية عمار» وكيف ذهب الى دير قوبل مفاوضا وكيف انتهى الموضوع بتســليم بندقية الداعية نفسه.
ويقول مرجع سياسي «ان جنبلاط ومنذ اندلاع الازمة في سوريا يعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي، حيث قرر الوقوف في نقطة الوسط بين البقاء في موقعه الحالي او التأسيس لنقلة نوعية تعود به الى موقعه السابق، متناغما مع «قوى 14 اذار»، ولذلك يمكن الافتراض أن الحملة مندرجة في السياق التأسيسي نفسه، أو تكون «توطئة» لاتمام زيارة عربية بات موعدها قريبا، من دون اغفال احتمال أن تكون مبنية على معلومات امنية مغلوطة، واذا ما صحّ ذلك، فليس مستبعدا حينئذ ان يرفع السماعة ويهاتف المدير العام للامن العام أو من ينوب عنه في مكتبه.