علامات استفهام كثيرة رُسمت حول اشتباكات طرابلس خلال الساعات الماضية، وأسئلة عديدة طرحت حولها وبقيت بلا أجوبة، نظراً للالتباسات التي سبقتها ورافقتها، والضجيج الذي أثير حول نيّة البعض تشيكل مجلس عسكري للسنّة في لبنان، أسوة بـ«المجالس العسكرية» لعائلات وتكتلات سياسية ومذهبية. لكن ما كان مستغرباً هو عدم ظهور أي تحرّك سياسي أو أمني لاحتواء الاشتباكات إلا بعد مضي حوالى 24 ساعة على بدئها، رغم أنها خلّفت أربعة قتلى وأكثر من 40 جريحاً، ما أعطى انطباعاً بأن الجهات المعنية نفضت أيديها من معالجة الجرح المفتوح في طرابلس، ومن تحرّكوا اكتفوا بإصدار بيانات أو عقد لقاءات شكلية، بدل قيامهم بأي خطوة عملية لإيقاف النزف الذي تشهده عاصمة الشمال بهذا الشكل منذ أكثر من 4 سنوات.
غير أن المشهد الأكثر دلالة على عمق الأزمة في اشتباكات طرابلس تمثل في تحوّل لهو الأطفال يوم العيد بواسطة مسدسات خرز بلاستيكية في محلة بعل الدراويش، الفاصلة بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن، إلى اشتباكات عنيفة استخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة.
واللافت للانتباه أن الاشتباكات الأخيرة سبقتها بيومين دعوة إمام مسجد التقوى الشيخ سالم الرافعي، في خطبة الجمعة الأسبوع الماضي، إلى «تشكيل مجلس عسكري للطائفة السنيّة في لبنان»، ما دفع البعض إلى الربط بين الأمرين وجعل مؤشرات القلق ترتفع.
غير أن بعض الشخصيات الإسلامية التي التقت الرافعي لاحقاً، نقلت عنه أن كلامه فُهم على نحو مجتزأ، لأنه «قال في خطبته إن علينا كلبنانيين أن نعيش معاً، فإن لم نستطع فليعش كلّ منا وحده بمعزل عن الآخرين. أما إن اعتدى أحد علينا فيجب تشكيل مجلس عسكري للدفاع عن أنفسنا ووجودنا».
ورغم الالتباس بشأن تصريحات الرافعي، رأت مصادر إسلامية أن الاستعدادات «جارية لإقامة مجلس عسكري، وأن العنصر البشري متوافر وجاهز»، لكنها أشارت إلى أن الرافعي أعلن مبادرته من غير أن يشاور أحداً، وهو أمر قد يلقى تحفظاً واعتراضاً داخل صفوف الفريق الواحد.
خطوة الرافعي لم تلقَ في العلن تأييداً واسعاً، سواءٌ من السياسيين أو الإسلاميين، باستثناء قلة كان منهم الشيخ عمر بكري الذي أوضح أن المجلس المرتقب «ليس تنظيماً أو حزباً، بل هو استعداد للوقوف في وجه التحدّيات التي تواجهنا من أزلام النظام السوري في لبنان».
وإذ رأى أن خطوة الرافعي «ردّ فعل على إعلان آل المقداد وأفعالهم وأقوالهم، ولأن النظام السوري يسعى عبر أزلامه إلى تصدير أزمته إلى لبنان»، أوضح أن «حال الضاحية الشمالية في مواجهة الضاحية الجنوبية أصبحت موجودة على أرض الواقع، هي حال للدفاع عن النفس، وحدودها تمتد من القلمون حتى مدينة القصير».
غير أن تطوّراً برز في اليومين الماضيين وكان موضع اهتمام المعنيين على نطاق واسع، تمثل في قيام سلفيين متشددين، بعضهم ارتبط اسمه بملف تنظيم «فتح الإسلام»، بجولات على قوى إسلامية وسياسية بعينها مقرّبة من فريق 8 آذار، ودعوتهم إلى «توحيد الكلمة»، وصولاً إلى تخييرهم بما يشبه التهديد المبطن بالاختيار بين الولاء للنظام السوري وحلفائه في لبنان، أو الانضمام إليهم.
أحد الذين التقوا الوفد السلفي أوضح أن نقاشاً مُعمّقاً جرى بينه وبين أعضاء الوفد، تبيّن بعده أن «سوء فهم» كبيراً يسود الطرفين. ولفت نظر الوفد إلى أن «سياسة التحريض المذهبي والسياسي التي يقوم بها البعض في لبنان تجعل بعض القوى الإسلامية، كالسلفيين، يقعون في فخ تنفيذهم مشروع السياسة الأميركية والإسرائيلية في لبنان من دون أن يشعروا»، لذا دعا أعضاء الوفد إلى إعادة نظر جذرية في سياستهم.
وسط هذه الأجواء دارت الاشتباكات في طرابلس على المحور التقليدي، بين باب التبانة وجبل محسن، وامتدت إلى محاور المنكوبين وتعاونية ريفا والقبة والحارة البرانية وسوق القمح، واستخدمت فيها الأسلحة الرشاشة والصاروخية إضافة إلى القصف المدفعي، ما أدى إلى شلل كبير في شوارع طرابلس وأسواقها، وانقطاع الطريق الدولية بين المدينة وعكار عند مستديرتي الملولة ونهر أبو علي بسبب رصاص القنص.
وإلى جانب سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، كان التطوّر الأبرز ميدانياً تعرّض الجيش لأكثر من اعتداء، وهو أمر غير مسبوق، إذ سقط له أول من أمس 4 جرحى قبل أن يلقي مجهولون أمس قنبلة يدوية على مركز تابع للجيش في محلة البقار أدت إلى جرح 5 عسكريين بينهم ضابط. ودفع هذا التطور عناصر الجيش في المنطقة إلى الرد بعنف على مصادر النيران، وإعادة انتشارهم فيها، ما جعل البعض يظن أن الجيش ينسحب من المنطقة بعد تعرضه لهذه الاعتداءات، وهو ما نفته مصادر عسكرية لاحقاً.
ميدانياً أيضاً، سُجّل اندلاع الحرائق في عدد من البيوت في باب التبانة وجبل محسن بعد تعرضها لقذائف صاروخية، ومثلها أيضاً محال تجارية في المنطقتين، عدا عن تعرض محال أخرى في غمرة الفوضى للتعديات والسرقة داخل المنطقتين وخارجهما.
سياسياً، أهاب الرئيس نجيب ميقاتي «بأبناء طرابلس المسالمين عدم السماح لأي كان بجرّهم إلى معارك لا تنتج إلا القتل والخراب والدمار، أو أن يكونوا ذخيرة لمعارك الآخرين»، طالباً من قيادة الجيش والقوى الأمنية «العمل بكل طاقاتها لإيقاف هذه المعارك العبثية».
كذلك عقد في منزل النائب محمد كبارة اجتماع لمناقشة التطورات الأخيرة في طرابلس، وانضم الى الاجتماع رئيس فرع استخبارات الجيش في الشمال العميد عامر الحسن والمسؤول عن استخبارات الجيش في طرابلس المقدم أحمد عدرة، في موازاة اجتماع آخر عقده كوادر منطقة باب التبانة في قاعة مسجد حربا في المنطقة للغاية نفسها.
وبعد الاجتماع الأول حمّل كبارة النظام السوري مسؤولية الاشتباكات، واتهم الجيش بإطلاق النار العشوائي الذي قام به عدد من أفراد الجيش وضباطه، «ما أدى إلى سقوط ضحايا أبرياء»، مطالباً بمحاسبة المسؤولين «عن هذا العمل كي لا تتكرر مثل هذه الممارسات غير المسؤولة، وإلا فسنأخذ مواقف تصعيدية». وأعلن أنه «تم التوافق مع فاعليات التبانة على وقف إطلاق النار بشكل فوري»، إلا أن الاتفاق لم ينفذ، وتواصلت الاشتباكات التي كانت تعنف حيناً وتخف أحياناً أخرى.
سوء تفاهم بين الجيش وعيد؟
وفي تطور لافت على صعيد علاقة الجيش اللبناني مع الحزب العربي الديمقراطي في محلة جبل محسن، طوّقت مساء أمس قوّة مؤللة من الجيش مكتب الأمين العام للحزب رفعت عيد في وسط المحلة، تضاربت المعلومات بشأن أسباب هذه الخطوة ودوافعها.
وفيما راجت معلومات بشأن أن خطوة الجيش هي لتعزيز الأمن في المنطقة وحماية عيد ومنطقته من الاستهداف، راجت معلومات أخرى على نطاق واسع بأن الجيش اللبناني قام بهذه الخطوة كـ«تدبير وقائي» هدفه كشف ملابسات حادثة الاعتداء على أحد مراكزه في محلة البقار اليوم، التي جرح فيها 5 عسكريين بينهم ضابط. أضافت المعلومات أن استخبارات الجيش تساورها شكوك في أن يكون عناصر من جبل محسن من مؤيّدي عيد متورطين في الاعتداء.
لكنّ مصدراً مقرّباً من عيد فضّل عدم التعليق على الحادثة وتفاصيلها، واكتفى بالتوضيح لـ«الأخبار» أن «ما حصل سوء تفاهم لم يستمر أكثر من 10 دقائق، وأن الأمر انتهى عند هذا الحد بعدما جرى توضيح الأمر على حقيقته، وأن عناصر الجيش انسحبوا مع آلياتهم لاحقاً من محيط مكتب عيد».