يُنظَر إلى الأحداث الأخيرة في طرابلس على أنها رسالة مرتبطة مباشرة بالاضطرابات في سوريا، من دون أن تُحمّل أكثر ممّا يقتضي أن تحمل. لا هي برسم التوسّع إلى أبعد ممّا حصل رغم الخسائر والإصابات، ولا هي جولة أخيرة من سلسلة طويلة. تُدرج أحداث طرابلس في سياق معطيات تجعل منها حدثاً متوقعاً، ويكاد يُعدّ عادياً:
1 ــ ليس في وسع أي من طرفي الاقتتال، الحزب العربي الديموقراطي في جبل محسن وتيّار المستقبل والتنظيمات الحزبية والسلفية وأنصار الشخصيات الطرابلسية في باب التبّانة، حسم النزاع المسلح لمصلحته.
لا الفريق العلوي المحاصَر في بقعة ضيقة يُمثل من خلالها الأقلية الطرابلسية قادر على ترجمة ترسانته العسكرية إلى انتصار سياسي أو جغرافي، مستفيداً من خطوط إمداد يتردّد أنها تزوّده السلاح من منافذ ملاصقة لزغرتا وأخرى لمخيم البداوي، ولا الآخرون الذين يمثلون الغالبية السنّية قادرون بدورهم على الحسم العسكري. كلاهما لا يملك قدرات الحسم، ولا يحظى بالغطاء السياسي الداخلي أو الخارجي بغية تحقيقه. لكنهما يقويان على استنزاف طويل الأمد ومكلف، بلا أدنى تعديل في موازين القوى.
وهو أيضاً موقف الأفرقاء الآخرين المساندين للصراع المسلح في طرابلس، كحزب الله وتيّار المستقبل اللذين يرفضان مجازفة الحسم العسكري. أضف أن أحداً من خارج المدينة من الأفرقاء اللبنانيين لا يتدخّل مباشرة في النزاع المسلح. إلا أن الفريقين المعنيين يملكان الكمّ الكافي من السلاح الذي يمكنهما من الصمود وخوض جولات تلو أخرى، من غير أن يُنهكا وتنفذ ذخيرتهما، وهما يعوّلان على فترات الهدوء التي تمتد أحياناً أسابيع لتهريب السلاح سراً إليهما.
بل تكمن المفارقة في أن الحرب المفتوحة بين المنطقتين المتقابلتين لا تتسم بطابع الانقسام السياسي، الموزّع على قوى 8 و14 آذار. بل تستمد جزءاً رئيسياً من خصوصيتها من الطابع المذهبي الضيّق للاقتتال الذي يفسّر انخراط مسلحين سنّة يدينون بالولاء لأطراف في قوى 8 آذار يقاتلون حلفاء مفترضين هم علويو جبل محسن.
2 ــ تكمن الرسالة المحدودة الأثر لأحداث طرابلس في اقتصارها على بثّ الفوضى وتعزيز الانقسام في المدينة، من دون بلوغ أهداف سياسية بعيدة المدى، ولا إحداث تعديل في موازين القوى الطرابلسية أو الشمالية. وهي غير مرشحة للانتقال إلى خارج المدينة، ولا تترك أثراً مباشراً لإشعال نزاعات مسلحة في منطقة أخرى من جرائها. لا يقلل ذلك من احتمال وقوع هذه النزاعات، إلا أنها ليست وليدة ما يجري في طرابلس، ولا تمثّل تداعيات مباشرة لها.
هكذا كانت حال أحداث عكّار قبل أكثر من شهرين، وأحداث الطريق الجديدة في بيروت من بعدها، وكذلك ما جرى في الأسابيع الأخيرة في العاصمة والضاحية الجنوبية وعلى طريق المطار. نزاعات مسلحة ــ أو تكاد ــ متشابهة كانعكاس للانقسام السياسي من الاضطرابات في سوريا، لكن من دون أن تستدرج إحداها الأخرى إلى حلقات متواصلة من الاشتباك.
3 ــ ملاقاةً للاعتقاد بترابط ما يجري في طرابلس بما يجري في سوريا، تحمّل جهات وثيقة الصلة بتيّار المستقبل وطأة العنف وافتعال الاشتباكات من جولة إلى أخرى، للأمين العام للحزب العربي الديموقراطي رفعت عيد الذي تجمعه علاقة وطيدة بأحد أقرب الضبّاط إلى الرئيس السوري بشّار الأسد، وهو ابن خالته، العقيد حافظ مخلوف. علاقته مكّنت الأخير من تحريك عيد وأنصاره للتسبّب الدوري بالاضطرابات.
بعض دوافع هذا الاتهام ما تستعيده تلك الجهات من مرحلة تطبيع العلاقات والمصالحة والحوار بين الأسد والرئيس سعد الحريري بين عامي 2009 و2010، عندما طُلب من عيد خفض التوتر في الشمال ومجاراة المرحلة الجديدة من علاقة سوريا بالحريري. حينذاك طلب مخلوف من عيد زيارة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي ورئيس فرع المعلومات العقيد وسام الحسن، وفتح صفحة جديدة في العلاقة والتعاون معهما. كان قد سبق الزيارة مكالمة هاتفية أخطر فيها مخلوف ريفي بالدور الجديد والمتعاون لعيد مع فريق الرئيس السابق للحكومة، ترجمته على الأثر زيارته لهما.
4 ــ يُنظر إلى ما يحدث في طرابلس على أنه مكمّل لما جرى، ولا يزال، في حمص. في الأشهر الأولى من المواجهة مع نظام الأسد، عوّل معارضوه في الداخل، وخصوصاً في حمص، على كمّ كبير من الأسلحة حصلوا عليها أو اشتروها من طرابلس. قيل إن بعضها سُرق من مخازن أحزاب وتنظيمات مؤيدة لقوى 8 آذار زوّدها إياها حزب الله، فبيعت ــ في ظلّ تهافت المعارضين السوريين عليها ــ بأسعار باهظة، وكانت معدّة لتحقيق توازن قوى عسكري في الشمال بين تيّار المستقبل والتيّارات السلفية وبين الأحزاب والشخصيات القريبة من قوى 8 آذار. بذلك قاتلت المعارضة السورية المسلحة النظام، بعض الوقت، بأسلحة اشترتها من حلفاء حزب الله.
اقترن العنف الذي شهدته حمص أيضاً بجولات مماثلة بين جبل محسن وباب التبّانة في الشهرين الأولين من هذه السنة، وخصوصاً على أبواب معركة بابا عمرو واجتياح الجيش السوري لها، فاندلعت في طرابلس اشتباكات عنيفة عند خطوط التماس التقليدية، وشاع على ألسنة سياسيين وثيقي الصلة بتيّار المستقبل أن جبل محسن في مقابل حمص مرة، وفي مقابل بابا عمرو أخرى.
مذ ذاك بات ما يجري في طرابلس مطابقاً لما يجري في سوريا، وأكثر التصاقاً بما تتعرّض له حمص التي مثّلت تاريخياً امتداداً سنيّاً لطرابلس بمقدار التصاقهما بعلاقة أمنية تاريخية لعقود طويلة بين الاستخبارات العسكرية السورية والطرابلسيين. لا ينسى كثيرون من الطرابلسيين اسماً مشهوراً في الاستخبارات العسكرية السورية من عقدي الخمسينات والستينات هو عبده حكيم (أبو أسامة)، قبل أن يعرفوا بين عامي 1976 و1984 اسماً آخر ضاهاه شهرة هو الرائد غازي كنعان (أبو يعرب).
في اشتباكات طرابلس قيل إن سوريا افتعلتها لصرف النظر عمّا يجري هناك، وتوجيه الانتباه إلى انتقال النزاع المسلح إلى لبنان. أقلق هذا الترابط سفراء دول كبرى قابلوا مسؤولين أمنيين في الساعات الماضية، واستفسروا عن مبرّرات انفجار الوضع في طرابلس على نحو غير مسبوق طاول الجيش أيضاً. سأل هؤلاء عن إمكان فصل ما يجري في سوريا عمّا يحدث في لبنان.
5 ــ تحت وطأة انقسام حاد بين السنّة والعلويين الطرابلسيين من أحداث سوريا، تحوّلت طرابلس ريفاً جديداً ضد النظام السوري لخوض معركة إسقاطه، على غرار أرياف حمص وإدلب وحماة ودرعا، صاحبة الخلاف المزمن مع نظام الأسد الابن، ومن قبله والده الرئيس، وانطلقت منها تباعاً شرارة العصيان، ثم المعارضة المسلحة.