نتيجة ذلك داخلياً كانت تفكك الأكثرية، و«انشقاقاتها». بعض تلك الانشقاقات متوقع. مثل ألعبانية وليد جنبلاط، أو «وسطية» نجيب ميقاتي. لكن بعضها الآخر لم يمر من دون شيء من مرارة، مثل «انقلاب» ميشال سليمان الحاصل تدريجياً وتراكمياً هذه الأيام. مرارة ولدت رسائل قاسية تم إبلاغها إلى ساكن بعبدا، أو المسكون بها.
بعد معادلتها الخارجية المهتزة دمشقياً، ومن ثم معادلتها الداخلية المتفككة حكومياً، وصلت أزمة النواة نفسها إلى حلقتها الذاتية. فبين ملف المياومين وقضية ميشال سماحة، نفذت الأزمة إلى القلب: غياب تنسيق، نجمت عنه مواجهات، انتهت فعلياً إلى شبه قطيعة، لم تكن معايدات الفطر كافية لتذليلها، وصولاً إلى غمز متبادل بين قنوات النواة المثلثة، من عين التينة والرابية إلى الضاحية، وفي أسرار المجالس أكثر من غمز حتى.
أما تعبيرات إدراك الأزمة، فمختلفة: نبيه بري عبّر بواسطة ندائه لمكافحة وباء الجنون. ميشال عون يعبّر بصمته. حزب الله بواسطة «الوضع الخارج عن السيطرة»، فيما سليمان فرنجية الأكثر مباشرة، عبَّر بالهجوم الجبهي على رأس «المنشقين» ورأس «الانقلابيين».
إزاء هذه الأزمة، وفي مفارقة غريبة، يبدو الفريق الحاكم وقد فقد فعلياً القدرة على المبادرة، واكتفى بسياسة ردود الفعل أو تصريف الأعمال ضمن أضيق الهوامش، لتنتقل المبادرة إلى المعارضة. لكن ما هي خيارات «الفريق الحريري الجامع»؟
يبدو واضحاً أن الفريق الأزرق يضع نفسه أمام احتمالين اثنين لا ثالث لهما: إما أن يصل إلى استحقاق 2013 الانتخابي وقد سقط الحكم في سوريا وقام مكانه حكم بديل حليف له. وإما أن يبلغ ذلك الاستحقاق والحكم السوري الراهن لا يزال في آخر مواقعه المترنحة، ومع آخر أنفاسه الملفوظة، وهو أكثر وهناً ونزعاً واحتضاراً.
يظهر من السلوك السياسي والإعلامي لهذا الفريق أنه لا يتصور احتمالاً ثالثاً على الإطلاق. فبالنسبة إليه السقوط الدمشقي محتوم. تبقى المسألة الوحيدة المطروحة قصة وقت وتوقيت. إذا حصلت قبل الربيع، لا يعود الفريق الحريري معنياً بالانتخابات النيابية المقبلة. تصير من نوع المحطة الساقطة تلقائياً. عندها يتطلع إلى الأهداف الكبرى: رئاسة 2014، في لبنان وفي سوريا أيضاً، كما كان الحلم الدائم لرفيق الحريري، وسلاح حزب الله، والانخراط ضمن «المنظومة الإخوانية»، لتصير اهتماماته مندرجة ضمن عناوين كبرى: سلسلة التوفيقات المطلوبة بين إسلامية الحكم من جهة، وكل من إسرائيل والغرب والتنمية والحريات من جهة أخرى.
أما إذا جاء الاستحقاق النيابي قبل السقوط الشامي، فيكون كل ما سبق مؤجلاً، وتخاض الانتخابات بخلفية تسريع الانتقال الكبير، أي شيء من قبيل تكرار أجواء 2005، لكن من دون تحالف رباعي. تواطؤ مسيحي لإبقاء القانون الانتخابي الراهن، بعدها أكثرية نيابية من دون أكثرية شعبية، تُستكمل بنائب شيعي «مستقبلي» رئيساً للمجلس النيابي. والخيار سيكون محصوراً بين ثلاث حاضنات: بيروت، زحلة أو البقاع الغربي. تصير كل السلطة في يد واحدة، ثم يُستدرج الفريق الآخر إلى سيناريو 5 أيار 2008، في غياب أي معطيات ممكنة لتكرار 7 أيار جديد. ففي الموازين الداخلية، يكون سلاح «جبهة النصرة» والمعارضين السوريين قد بات في قلب العاصمة اللبنانية. وفي الموازين الخارجية تكون أنقرة مصدر سلاح هؤلاء، و«شكراً قطر» قد تكون عندها عبارة صالحة ليعلنها خليفة نبيه بري في الرئاسة الثانية الزرقاء... حتى إذا خرج حسن نصرالله هذه المرة وكرر كلامه: «أنا المسؤول، تعوا خذوني»، يكون وسام الحسن جاهزاً للتنفيذ، أو لتفجير البلد، استكمالاً لما يحصل في سوريا.
مجرد تخيّل؟؟ الثابت والمؤكد أن دعاة «القاعدة» في طرابلس قد بدأوا جولاتهم على كل المسؤولين الروحيين هناك، مع رسالة واضحة: إما أن تكونوا معنا في الاستحقاقات المقبلة، أو لا تكونون أصلاً. أي قدرة مبادرة للفريق الحريري إذن؟ أن يعدل خياراته جذرياً: إذا تغيّر الوضع في سوريا، يبادر إلى طرح معادلة الاستراتيجية الدفاعية والسلاح في مقابل الميثاق الوطني الجديد. وإذا لم يتغير الوضع هناك، يبادر إلى مشروع تسوية في موضوع قانون الانتخابات. وإلا فالانفجار محتوم، في ظل أزمة الأكثرية، الباقية على حكومتها وعلى أزمتها.