اما ما يليها فاصبح عادة مملة يمارسها خصومه الذين يحاولون البحث بين كلماته عن «زلات» تدينه للبناء عليه وتهشيم صورته وصورة حزبه، وحدها اسرائيل تأخذ بجدية متناهية كل تفصيل يقوله وتبني على الشيء مقتضاه اثر كل معادلة يبرع في تقديمها في الزمان والمكان المناسبين.
كتب ابراهيم ناصرالدين في جريدة الديار اللبنانية :
أما ما يتعلق بالسباق الامني بين اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية والغربية وبين امن المقاومة، فذروة السباق والتحدي وصراع الادمغة يكون عادة في زمن وجود السيد على الهواء، واذا كانت المرات السابقة قد شهدت سباقا لفئة المائة متر فان ما حصل اول من امس كان سباق «ماراتون»، حيث كانت دقات القلب وخفقانه وصوت الانفاس يصم الاذان، في حرب اعصاب ارتفع معها «الادرينالين» الى اعلى مستوياته. فما الذي حصل؟ ولماذا يمكن ان يطلق على ساعات الظهور التلفزيوني هذه «اطلالة التحديات» الامنية؟.
في تحليلها للمضمون وقبل الحديث عن «صراغ الادمغة»، ترى اوساط سياسية مطلعة انه سواء حملت مواقف الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله اي جديد نوعي او لم تحمل، فانها ستحصد ردود الفعل نفسها ومن ذات الاشخاص المتخصصين بالرد على كلماته، وما ورد في اللقاء لم يكن مفاجئاً بشكل عام، فلم يكن احد مثلا ينتظراجابات على اسئلة حول الوضع المادي للحزب واسباب افلاس شركاته، وكذلك اسباب استمرار هروبه من البلاد دون مبررات مقنعة، فهذا السيد نصرالله وليس زعيم المعارضة سعد الحريري، واذا كان هناك من كان ينتظر ان يرد السيد على مواقف زعيم القوات سمير جعجع المهجوس بفتح حوار ولو على الهواء مع قائد المقاومة، فهو ايضا غير مدرك لطبيعة الرؤية الخاصة لهذا الرجل وموقفه من تلك «الجعجعة» البعيدة عن الواقع، اما ثبات الموقف من الازمة السورية فكان امرا متوقعا، واعادة شرح المعادلات الخاصة بالصراع مع اسرائيل كان ايضا امرا متوقعا، والموقف الرافض للفتنة السنية الشيعية لطالما كان حاضرا في خطاباته السابقة، واذا كان البعض قد حاول قبل ساعات من اللقاء استدراجه مجددا الى اعتذار من «ثوار» سوريا، فهو مرة جديدة فشل في قراءة عقل ونمط تفكير هذا الرجل وحزبه، وحدهم في اسرائيل عادوا مرة جديدة ستة سنوات الى الوراء وحملوا بين ايديهم، كما فعلوا خلال حرب تموز، ما يساعدهم على تسجيل الملاحظات بعناية دقيقة لمعرفة حقيقة ما ينتظرهم في المستقبل القريب والبعيد اذا ما ارتكبت حكومتهم حماقة جديدة.
وفي هذا السياق ترى تلك الاوساط ان السيد نصرالله كان واضحا في رسالته المشتركة الى الداخل الاسرائيلي والى الداخل اللبناني المتخاصم معه، فهو على طريقة «اللقاح التذكيري»، اعاد تثبيت معادلة «الهجوم»: خير وسيلة للدفاع،عندما تحدث مجددا عن امكانية اعطاء الاوامر لمجموعات المقاومة للدخول الى الجليل اذا ما اقتضت المصلحة ذلك،وهذه المعادلة تذكر الاسرائيليين بان لعبتهم القديمة - الجديدة التي اعطت وتعطي حروبهم على العرب صفة الحرب الدفاعية، ستنقلب عليهم هذه المرة، وما استخدموه في السابق بات مدرسة تبنت المقاومة تعاليمها وبات بامكانها تطبيقها حينما تشاء، اما الخصوم اللبنانيون فبات عليهم توسيع افاقهم البحثية والتعليمية عندما سيعودون مجددا الى طاولة الحوار لبحث الاستراتيجية الدفاعية بعد ان طرأ على هذا النوع من الملفات تقدم نوعي يحتاج الى المزيد من الاطلاع والمعرفة الدقيقة في العلوم العسكرية والتكتية.
وبرأي تلك الاوساط لم يكن الاسرائيليون فقط وحدهم من دقق بكلمات السيد هذه المرة، واذا كان قائد المقاومة قد تقصد الابقاء على «الغموض» بشأن رد الفعل الايراني على اي ضربة لسوريا، فالاميركيون استمعوا وفهموا جيدا المفردات التي استعملها للرد على الرسالة غير المباشرة التي حملها الاوروبيون للايرانيين وفيها تنصل مسبق من اي مغامرة اسرائيلية ضد ايران، وكانت الرسالة واضحة لا تقبل اي التباس مفادها ان اي حماقة اسرائيلية تتحمل مسؤوليتها واشنطن ولذلك لن تبقى القواعد الاميركية بمنأى عن اي رد عسكري ايراني، وهذا يعد رفعاً لسقف التحدي وتاكيداً على وجود القدرة العسكرية اللازمة للقيام بذلك، ولو كانت التكتيكات العسكرية تسمح بفضح الخطط والمعلومات لخرج احد ضباط المقاومة الى جانب السيد ومعه الخرائط التفصيلية لتلك القواعد، ومعها ايضا الخرائط المرمزة للقواعد العسكرية والاستراتيجية في اسرائيل ومعها اسماء وارقام الشوارع والازقة، وحتى اماكن سكن القادة العسكريين والمدنيين.
أما لماذا كانت هذه المقابلة هي «اطلالة التحديات الامنية»؟ فهذا يعود الى محتطين بارزتين خلال هذا اللقاء المطول، الاول تحدي غير مقصود فرضته «مفاجئة تقنية»، والثانية مقصودة اختار السيد نصرالله الكشف عنها عن سابق تصور وتصميم عندما كشف عن زيارته الى دمشق في بداية الازمة السورية ولقائه الرئيس السوري بشار الاسد، وبغض النظر عن مضمون اللقاء الذي كشف للقاصي والداني عن عمق العلاقة ومتانتها بين الرجلين، وكشف ايضا عن مدى المكانة الكبيرة التي يحتلها السيد في العاصمة السورية، فان مجرد الحديث عن قدرة السيد نصرالله على التحرك في هذه البقعة الجغرافية الواسعة وانتقاله الى خارج الحدود في التوقيت الذي يراه مناسبا، يعد ضربة قاسية للمخابرات الاسرائيلية ومن معها من اجهزة غربية وعربية تترصد تحركاته وتحاول تعقبه اذا ما تنقل بين شارع واخر في ضاحية بيروت الجنوبية، وهو بالامس اراد ابلاغ من يعنيهم الامر ان حزب الله يملك القدرات الكافية التي تخوله التمويه والتأمين والرصد التي تخول امينه العام التحرك متى يشاء واين ما يريد داخل لبنان وخارجه في الدول الحليفة، ومن كان يظن من قادة اسرائيل انه انتصر في حرب 2006 عبر تحقيق انجاز كبير من خلال اجبار السيد نصرالله على الاختباء تحت الارض، فهو اكتشف قبل ساعات من الان ان خيبة امله كبيرة بعد ان اكد السيد نصرالله انه يرى الشمس حين ما يريد.
اما قمة الاثارة فكانت عندما تعطل بث الحلقة فجأة نتيجة انخفاض الترددات سببها عطل تقني فانقطع «الهواء» لمدة تقارب الثمانية دقائق، عندها وعلى عجالة تم طرح سلسلة من الاسئلة التي تحتاج الى اجابات سريعة نتيجة سقوط عامل امني شديد الاهمية كان يشغل الاسرائيليين وعملائهم لساعات طويلة قبل ان يصلوا الى اجوبة دقيقة حوله، وهو هل الحلقة مباشرة ام انها مسجلة؟ والاهم من ذلك كان السؤال المركزي حول اسباب هذا العطل المفاجىء، هل اكتشف احد ما الترددات ودخل عليها ونجح في ايقاف البث؟ اذا ثبت ذلك فيعني ان الخطورة اكبر؟ لذلك كان السؤال المركزي هل تكمل الحلقة ام تتوقف؟ ما هو حجم المخاطرة الامنية من استمرار وجود السيد على الهواء مباشرة بعلم الاسرائيليين ومن معهم من اجهزة اخرى؟ هل يتم الاكتفاء بتقليص الوقت المخصص للحلقة ام تترك الامور كما كان متفق عليه مسبقا؟
كل هذا الكم الهائل من التساؤلات حسمته على عجل الثقة بالاجراءات الامنية المتخذة رغم خسارة عامل الوقت الذي كان ينهك الاسرائيليين ويجعل المقاومة تتقدم عليهم دائما بخطوة، لكن «العيون» الاسرائيلية اصطدمت بسلسلة من الاجراءات الاحترازية المعقدة التي تجعل من امكانية العثور على مكان البث «الحقيقي» امرا شبه مستحيل نتيجة استخدام اكثر من موقع للارسال والبث، وخروج ووصول معقد للترددات المنخفضة عبر استخدام اكثر من «مايكرويف»، وقد ساهمت تلك الامور مجتمعة اضافة الى سلسلة من الاجراءات الميدانية لاخراج فريق العمل والسيد نصرالله من موقع تصوير لن يستخدم مرة اخرى، وقد تاخر الاسرائيليون في اكتشافه،واذا كان امن المقاومة قد ربح في السابق سباق المائة متر في حماية السيد عبر مرافقته للحظات في الشارع واخراجه دون ان يمسه اذى، فهذه المرة تفوق على «عدائي الموساد» في سباق مارتون نوعي استمر لنحو ثلاث ساعات وعلى الهواء مباشرة.