لا يحتاج «دولة الرئيس» ميشال المرّ لمن يبلغه بالورقة والقلم، أنه لم يعد «صانعاً للنواب»، كما كان طوال أكثر من عقدين، بل صار نائباً، رقماً واحداً، وصوتاً واحداً، يخوض معركته من باب حجز مقعد، لا أكثر. فهذه الحقيقة المرّة ليست خافية على الرجل الذي ما يزال حتى اللحظة متمسّكاً بموقعه، رافضاً «توريثه» إلى نجله الياس، مهما قست عليه السنون، وتعرّجت خطوطها على محياه.
في الطابق الرابع من مبنى «العمارة»، يستقبل «أبو الياس» قدامى المؤيّدين وطالبي الخدمات من رؤساء بلديات ومخاتير وفاعليات متنية... ويراجع حساباته. يتّكل على مشاوراته «التقليدية» مع المفاتيح الانتخابية، لا تغريه الوسائل الحديثة في رصد المزاج الشعبي، ولا يركن إلى إحصائياتها، ولا إلى استطلاعات رأيها. يحفظ المتن حجراً حجراً وزاوية وزاوية، عدد مواليده، كما وفياته، من بلغوا الحادية والعشرين ومن حملتهم الغربة إلى خارج الحدود. نموذج استثنائي من الأقطاب المحلييّن، الذين «انتفخ» حجمهم في غياب «زعامات الشارع»، ثم تقلّص مع عودة «الأصيل».
ولكنّ حال «العمارة» اليوم لا تشبه أبداً وضعيتها بالأمس، قبل ثلاث سنوات، أو سبع بالتحديد. يومها كان الداخلون أكثر من الخارجين. أما في هذه الفترات، فإن قاصدي المبنى الزجاجي، يُدلّ عليهم بالأصبع، ولوائحهم توضع على مكاتب الزعامات المسيحية، الخصمة كما الحليفة. وكذلك حال «أبو الياس» الذي كان حاضراً في المناسبات الاجتماعية المتنية كافة، الأعراس كما التعازي، والاحتفالات المحلية. يبدو راهناً، مقصّراً في واجباته، يقنّنها كثيراً ويختار منها ما ندر. حتى كريمته ميرنا التي كان يعوّل عليها في تلبية بعض الدعوات، تختصر في «واجباتها».
ورغم كلّ ما ورد، ما يزال «أبو الياس» رقماً لا يشبه كلّ الأرقام. «حاكم بأمر العهد اللحوديّ»، يهندس الوضع الانتخابي بهدوء، عينه على «الموقع المضمون»، واستطراداً على التفاهم الأقلّ كلفة. في مركب قوى الرابع عشر من آذار، أو على «التسونامي البرتقالي»، لا يهمّ، طالما أن المقعد سيوضع في الجيبة. بالنسبة لـ«دولته» المسألة حسمت، هو مرشّح الـ2013، ونقطة على السطر. تجربة نجله الوزارية وحتى في نيابة رئاسة الحكومة، لم تمكنّه بعد من اجتياز امتحان «الشعبية» التي تسمح له بإحالة «الوالد» إلى «التقاعد».
ولكنّ حتى اللحظة، هناك من يراهن على انقلاب الأدوار على المسرح المرّي، وعلى صعود نجم الابن على حساب الأب، إذ يُنقل عن بعض الكتائبيين، على سبيل المثال، أن التعامل مع وزير الدفاع السابق أسهل من التفاوض مع «الختيار»، كما أن تسويق الأول أمام الرأي العام الشاب أقل مشقّة من والده.
بالمبدأ، ثمّة «تفاهم لفظي» بين ميشال المر وقوى الرابع عشر من آذار، الممثلة متنياً بـ«الكتائب»، التي تعتبر نفسها صاحبة الدار المتنية، و«القوات»، القوة الآذارية الثانية، على انضمام القطب الأرثوذكسي للقائمة ـ الإئتلاف، فيما انتقلت المفاوضات بين الجهتين إلى مرحلة تسمية «ركّاب البوسطة».
ولكنّ الشك لم يحرّر الآذاريين من «عقدة النقض». «النقزة» لا تزال تحفر في نفوسهم، من امكانية تكرار مشهد العام 2005، يوم ركب «تفاهم أعوج» بين الرابية و«العمارة» جلس على أساسه «أبو الياس» على طاولة «التغيير والإصلاح»، قبل «التمرّد» عليها، علماً بأنّ كل المؤشرات تدلّ على أن الهدنة القائمة بين المقرّين، ليست سوى سراب، ولن تتحول إلى حقيقة ملموسة، وأبرز تلك المؤشرات التالية:
ـ يُسمع أنّ كل رئيس بلدية متنية أو رئيس نادٍ قريب من المرّ، يُعاتب من جانب نائب رئيس مجلس الوزراء السابق إذا ما تناهى إلى مسامعه أنّه حاول التقرّب من الرابية، أو فروعها المتنية.
ـ مشاركة الياس المرّ الشخصية في اجتماع قوى الرابع عشر من آّذار في 24 أيار الماضي، علماً بأنّ هناك من اعتبر أن الخطوة كانت من باب حضّ الفريق الآذاري على تأمين غطاء للجيش اللبناني ليس أكثر.
ـ المشاورات التمهيدية بين «أبو الياس» وأدي أبي اللمع وسامي الجميل.
ولهذا يجمع أكثر من شخص على أنّ «نأي» دولة الرئيس بنفسه عن الدوائر البيضاء أو السوداء والاكتفاء بالرمادي، خلال المرحلة الراهنة، هو من باب رفع سقف تفاوضه، ليس أكثر، لأنه يعرف جيّداً في قرارة نفسه أين سيكون صيف 2013.
من هذه الزاوية بالذات، يُفهم التواصل الدائم، على خلاف «الكتائب»، الذي تحرص «القوات» على نسجه مع «العمارة» من خلال أبي اللمع، عملاً بالاستراتيجة القواتية، المعمّمة على أكثر من منطقة، والقائمة على أساس «استيعاب» الأقطاب المحليين، تمهيداً لهضم جمهورهم، وضمّه إلى «أملاكها». تدرك «القوات» أنها ليست «صاحبة الأرض» في المتن، لكنها مطمئنة لنموّها السلحفاتي الممنهج والمنظّم والذي يستهدف بشكل محدّد الجيل الجديد، والذي يقضم بشكل خاص من الكوتا الكتائبية.
وعلى طريقة «عونيي المرّ» و«كتائب المر»، صار هناك جناح ثالث من زوار «العمارة» يطلق عليه اسم «قوات المرّ»، ممن يقصدون «أبو الياس» طلباً للخدمة، ويدينون بالولاء السياسي إلى موقع آخر. وكل ذلك لا يعني إلّا خلاصة واحدة، وهي تقلّص القوة التجييرية لصاحب الماكينة الانتخابية التي كانت توصف بـ«البولدوزر»، إلى حدودها الدنيا.
وما يتسرّب من المداولات الخجولة بين قوى الرابع عشر من آذار وبتغرين، يشي أن مثلّث ميشال المر ـ سامي الجميل ـ ادي أبي اللمع سيكون ركيزة اللائحة المرتقبة، (تواصل دوريّ بين الجميل وأبي اللمع)، يضاف إليهم اسم كاثوليكي جديد هو روجيه شمعة الذي تصرّ بكفيا على ضمّه إلى الائتلاف، في حين يحاول البعض طرح اسم شخصية كاثوليكية من خارج النادي التقليدي يؤمل أن تشكل مفاجأة من العيار الثقيل. وتسجّل هنا، مشاركة النائب السابق انطوان حداد، على غير عادة في قداس الشهداء في معراب، والتي قد لا تترجم انتخابياً.
غير أنّ التشاور عالق على المقعد الأرثوذكسي من جهة، والأرمني من جهة أخرى، في حين يبدو أن «حزب الوطنيين الأحرار» غائب عن هذه التركيبة، وإن كان من السبّاقين في إعلان مرشحه المتني.
فمعلوم أن المرّ تصيبه «النقزة» من أي اسم أرثوذكسي آخر، والياس مخيبر الذي كان في عداد لائحة 2009، قد يواجه «فيتو مرّي» يحول دون تكرار تجربته، في حين أن العمارة تفضّل انضمام جاك صرّاف إلى اللائحة. كما أن النقاش لم يحسم بعد ما إذا كانت اللائحة ستضمّ مرشحاً أرمنياً مواجهاً لمرشح «الطاشناق»، عملاً بالنقاش ذاته الذي ساد خلال الدورة الماضية: هل نستفزّ الأرمن أم نحيّدهم؟
وفي هذا السياق، تجزم شخصية آذارية من نوعية «الصقور»، أن التعاطي مع «الطاشناق» لم يكن رمادياً، وبأن هذا الفريق لن يسمح للحزب الأرمني بأن يتحكّم بالدفّة الانتخابية في المتن، فإما التوصّل إلى تفاهم سياسي واضح مع «الطاشناق»، وإما انضمام مرشح أرمني إلى لائحة قوى الرابع عشر من آذار. لكن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء.
ماذا لو صحّت «توجّسات» البعض من تفاهم مرّي ـ عونيّ يولد في اللحظات الأخيرة؟
احتمال وارد بالنسبة لبعض الآذاريين، واسم غبريال المر حاضر في الأذهان كما في الحسابات، لمواجهة المفاجآت «القاتلة»، لا سيما وأنّ حبر «المصالحة» بين «أبو الياس» والحليف التاريخي «الطاشناق»، لم يجف بعد، إذ يبدو أنّ الأخير مستعد لاستحضار كلّ أنواع «السكاكين» لتدوير الزوايا بين الرابية وبتغرين، على طريق جلوسهما مع بعض من جديد، مع العلم أن «حيثيات» الاستحقاق الرئاسي قد يكون واحداً من المحطات المفصلية في مشوار التفاوض الصعب بين «الجنرال» و«دولته».
في المقابل، تجزم الدائرة الضيّقة لـ«أبو الياس» أن الأخير حسم خياراته: إلى التحالف مع 14 آذار درّ...
ولأنّ حلقة المفاوضات بين الحلفاء المفترضين ما تزال متعثّرة، هناك من يسأل بخبث: هل ستعامل قوى الرابع عشر من آذار «دولة الرئيس» كما عاملت النائب السابق الراحل نسيب لحود عشية الاستحقاق الماضي، بحجز مقعد له وإبعاده عن طاولة المشاورات؟
بانتظار جلاء الصورة، تراجع الرابية الأرقام واستطلاعات الرأي، التي قد تدفعها في نهاية «السباق التمهيدي» إلى غربلة أسماء «التغيير والإصلاح» من باب ضخّ دم جديد قد يساهم في تحسين الوضعية الشعبية للبلوك البرتقالي. فالمعركة ليست في الجيبة، ولا بدّ من مقومات دعم إضافية تحصّن «البيت العوني» من خروق محتملة. كل الأجواء تشير إلى أن ثمة نائباً أو نائبين قد تُشهر بوجهيهما «البطاقة الحمراء» من جانب «القيادة العليا». وهنا يُقال إن النائب سليم سلهب هو واحد ممن قد يدخلون «منطقة الخطر».
في هذه الأثناء، تتوسّع دائرة الحراك الانتخابي في المتن، على الجبهات كافة. أكثر من اسم دخل حلقة التداول، النائب السابق اميل لحود نجح في تسجيل حضور له، رئيس جمعية «سيدورس للإنماء» وليد أبو سليمان حفر موقعاً إنمائياً واجتماعياً في أعالي المتن، غير الممثلة نيابياً، ميشال مكتف (صهر أمين الجميل سابقاً) يحاول الاستفادة من شبكة علاقاته، السابقة والحالية، الكتائبية بالأساس، لمراكمة حيثية له، مع العلم أن أزمته مزدوجة، فلا هو قادر على «الالتحاق» بلائحة 14 آذار بسبب الخلاف العائلي مع آل الجميل، ولا باستطاعته «اللجوء» إلى خصومهم... ولكن يُنقل عن بعض الكتائبيين أنهم سيصوتون لمصلحة مكتف في حال لم تضم اللائحة الآذارية مرشحاً كاثوليكياً كتائبياً.
عونياً، لا تختلف اللوحة في تشعّباتها. القيادي انطوان نصرلله ينشط متنياً، بضوء أخضر من الرابية، على أمل أن يحط رحاله على المقعد الأرثوذكسي. منسق المتن سابقاً في «التيار الوطني الحر» طانيوس حبيقة ابن بلدة بسكنتا يحاول حجز موقع له، بعدما أقام عشاء تحت عنوان جمعية «متنيون»، أثار الكثير من اللغط حول مدى رضى القيادة على خطوته. فنواب «التكتل» ووزراؤه كما «الإعلام البرتقالي» قاطعوا الحفل، وهناك من ذهب في معلوماته إلى حدّ القول إنّ الرابية لم تشجّعه على هذا التمّدد، مع العلم أن الجمعية استحصلت على «العلم والخبر» بإذن من السلطات البرتقالية.
للإشارة فإن مقعد الحزب «القومي» على اللائحة العونية، يرجّح أن يكون محفوظاً، لمصلحة النائب السابق غسان الأشقر، كما لا يبدو أن موقع النائب الأرمني أغوب بقرادونيان، معرّض للتغيير.
وعلى هامش الصراع الثنائي، الذي سيصير عمره في 2013، ثماني سنوات، تتحرّك مجموعة من الأسماء، على أساس «خيار ثالث»، تضم ميلاد السبعلي، رافي ماديان، وكثراً من الطامحين...
بالنتيجة، تبدو موازين القوى المتنية مشابهة لمشهد 2009، كما في صورة التحالفات، باستثناء صعود النائبين ابراهيم كنعان وسامي الجميل من دون حزبيهما، بما معناه أنّ توسّع دائرة شعبية الثاني ضمن دائرة 14 آذار، لم يؤدِ أبداً إلى نمو القدرة التجييرية لـ«الكتائب».