جنود بثياب «نصف» عسكريّة ورشاشات قديمة. الحرّ شديد في تلال الناعمة. بين الجنود من يرتدي بنطلوناً زيتياً مرقّطاً و«بروتيل» أبيض، وهناك من يكتفي بالبقاء عاري الصدر. تحت التلال كانت معسكرات «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ القيادة العامة». كانت أو ما زالت. لا يروق سكان الناعمة الحديث عن الأمر. أمور أخرى تشغل بالهم: «السلفيّون». «إنهم يتكاثرون»
أحمد محسن
تستقبلك الناعمة بالإطارات. مصفوفة بعناية على المدخل قرب الصيدليّة المقفلة. معدّة للاشتعال في أي لحظة. القصّة ليست شائعة. حارة الناعمة تعجّ برايات «لا إله إلا الله». أحد الأعلام يرفرف في مواجهة «بيت الكتائب» في المنطقة. وفي «الحارة»، أيضاً، أعلام للثورة السوريّة. هذا رأي فئة من اللبنانيين، لكن شباناً وقّعوا تحت أحد هذه الأعلام شعاراً طائفيّاً: «قلعة السنّة». لم تكن المنطقة، منذ صعود نجم «حارتها» في أوائل التسعينيات، في منأى عن التجاذب الطائفي. عندما نزل أهل الناعمة إلى «ساحات 14 آذار»، ضدّ الوجود السوري، لم يتركوا خلافاتهم في منازلهم. ثمة اقتناع لدى مناصري «المستقبل» في حارة الناعمة بأن «العونيين والقواتيين» قد يتحالفون في أي لحظة ضدّهم. والعكس صحيح. لن تجد جواباً آخر عن السؤال عن العلاقة الاجتماعيّة: مقطوعة.
وفيما يسعى «المسؤولون» إلى «ضبط» الخلافات التي تحدث بين حين وآخر، بين الناعمة وحارتها، وتصويرها على أنها «فرديّة» دائماً، رغم أنها أدت إلى سقوط ضحايا أحياناً وجرح كثيرين. يفضح الشارع الجميع: في الناعمة الكتائب كتائب والقوات قوات والمستقبل مستقبل. التحالف رمزي، وعلى الطريقة اللبنانيّة. لا «سلم أهلياً» في الناعمة. الشعارات المذهبيّة في ساحة «حارة الناعمة» لا تعلن شيئاً إلا انتهاء «شهر عسل» 2005. جاء السلفيّون، وفي الناعمة ثمة من يريد «بقّ البحصة».
إنها ساحة، ولكن يراد لها أن تكون «قلعة». أينما مشى العابر في ساحة «حارة الناعمة» تصطدم عيناه بالأعلام السوداء، وبصور كثيرة للشاب الذي قتل في دوحة عرمون الشهر الماضي كمال الشيخ موسى. موسى كان مقاتلاً كما تقول صورته المدججة بسلاح حربي متطور. الساحة هي الأخرى مدججة بصور للرئيس السابق سعد الدين الحريري. يقول العارفون في شؤون «الضيعة» إن تيار المستقبل ما زال الأكثر شعبية في المنطقة، متسلحاً بحضور كثيف في صفوف «الأكراد» و«العرب» الموجودين فيها منذ زمن لم يصدأ بعد. وهذا واضح. غير أن هؤلاء يجزمون بأن هذا الحضور «شبه مشروط». لا يعني ذلك أن الولاء الشعبي للمستقبل قابل للزعزعة بلا تداعيات، لا لأنه ليس «أيديولوجيّاً»، ولا لأن أهل الناعمة لا يستخدمون «التويتر» للتواصل مع «الزعيم»، بل لأن حسابات تراجع التيار في قرية الشوف المجهزة على طريق الساحل الجنوبي، يحكمها معياران رئيسيان.
أولهما «الخدمات». فعمليّاً، كما يقول السكان، كانت لحزب الله، مثلاً، علاقات «ناعمة» مع الضيعة، يحلو لبعضهم أن يصفها بأنها «اختراق» للحزب في صفوف الأكراد وإقامته علاقات «في غايّة الود» معهم. لم يكتف الحزب بذلك، بل استخدم الأساليب ذاتها التي يستخدمها في الجنوب أو البقاع، للتودد إلى أهل الناعمة. ومن بين أهلها اليوم، من يذكر «معروف» الحزب الذي قدّم مولداً كهربائيّاً لبلديّة الناعمة ــ حارة الناعمة، لمناسبة «المولد النبوي الشريف»، بقوة KVA 150. كان هذا قبل أن «تكهرب» المنطقة. وهذا لافت، بمعزل عن أبعاده السياسيّة، لا لأنه حصل في العام الفائت وليس من زمن طويل، ولا لأن المولد يوفر كهرباء كثيرة تعجز «حكومة الحزب» عن توفيرها. ببساطة، أهل الناعمة من «أنشط» اللبنانيين في قطع الطريق احتجاجاً على غياب الكهرباء والماء والحقوق الأساسيّة الأخرى. والواقع، أن الحزب، البعيد سياسيّاً وديموغرافيّاً عن الناعمة، تنبه إلى مشاكل أهلها قبل التيار الحريري، الذائع الصيت في مثل هذه النوعيّة من الخدمات. وفعلاً، استفاد 30 ألف مواطن في الناعمة وحارتها ودوحة الحص من هذا المولّد العملاق، بعد احتفال حضره رئيس «الهيئة السنّية لنصرة المقاومة»، الشيخ ماهر مزهر. ميدانيّاً، تشير المعطيات المنثورة على ألسن السكان أن المعيار «الخدماتي» لم يعد مؤثراً وأنه ينحسر. لا يخيف ذلك تيار المستقبل كثيراً، فهو قادر على أداء دور واسع فيه، وقد «أمّن وظائف أخيراً لعدد كبير من أهل المنطقة»، وهذا على ذمة أحد كارهي التيار.
المعيار الثاني «مذهبي» صرف. معيار أساسي في منطقة مختلطة طائفيّاً وصافية مذهبيّاً. مناصرو التيار أنفسهم لا يجدون حرجاً في إعلان ذلك. لا ينفون وجود دور للقوى «السنيّة» الأخرى، بيد أنهم واثقون من أنها «لا ترغب في الصدام مع تيار المستقبل». المعيار الثاني ليس متصلاً بالأول جذرياً. جزء كبير من القوى، التي تضع نفسها في خانة «8 آذار»، غير راضٍ فعلاً عن «قطع الطريق البحري وافتعال الإشكالات مع الجيران». والتعليل المرفق لهذا الرفض، من وجوه في هذا الفريق، طائفي صرف. لا يرغبون بجرّ الناعمة إلى «خلافات مع الشيعة» قد تضرّ بالمنطقة. ومن بين هؤلاء، من يجرؤ ويعلن قائلاً: «عندما تصل الموسى إلى الذقن سنلتف معاً جميعاً». هذا عامل مطمئن للمستقبل، على ما يبدو، الذي يعرف مناصروه جيداً، أن «الشحن المذهبي» يعود بمنفعة سياسيّة ملموسة. غير أنها منفعة محفوفة بالمخاطر. وقد تكون أبرز هذه المخاطر على التيار و«مشروع الدولة» خاصته، هم السلفيون، الذين كان لهم «تيارهم».
لا أحد الآن يذكر كيف «تفاقمت الحالة السلفيّة». نتحدث عن «قلعة للسنّة» وعن سلاح منتشر على الصور وفي المنازل. أصبح «التيار السلفي» نافذاً في الناعمة بعد الثورة السوريّة، وعلى الجميع التعامل مع الأمر. معالم الناعمة المسيحيّة تتضاءل تدريجاً، فيما يصعد «بروفايل» سلفي للمنطقة، غير آخذ بتاريخها. «وجد» السلفيّون بيئة هناك، والحجر الأبيض الطويل الذي يداعبه «حارس المسجد» كان شاهد قبر. يبدي سعادته بهذا القبر، الشاهد على أن «في الناعمة مسلمين قدامى». الرجل الذي حفّ شواربه وأعفى لحيته، اكتشف الشاهد قبل أسبوع تقريباً، أثناء الحفريّات التي قامت بها البلديّة لإصلاح الخطوط الهاتفيّة. هو سلفي ودود، على عكس صديقه، الذي «استعاذ بالله»، ألف مرة، رافضاً تصوير الجامع. هذا الأخير هو انعكاس للصورة التي يعرفها مسيحيو المنطقة عن السلفيين: «الفزاعة».
النفور المسيحي
في الضفة المقابلة، الحذر أولاً. لا يهمّ «أبو طوني» انتصار الثورة في سوريا أو انكسارها. قد يبدو هذا غير إنساني، إلا أنه الواقع. الرجل غير معني بهذا كله. يهمه أن يشرب «كأس العرق يوم الأحد». لا يحبّذ حتى التقاط الصور. لا يحبّ الحديث عن تاريخ الناعمة. يتململ من مفردتي «العيش المشترك». رغم ذلك أبو طوني ودود... «طبعاً أتمنى الخير للسوريين، فهم، مثلنا، فقراء». صارت معاييره طبقيّة فجأة. وعلى مضض، يقبل أن يطلق موقفاً، معززاً بأسانيد حسيّة. كان من أنصار الكتائب. هُجّر وعاد ثم هُجّر ثم عاد. هذه حال الجبل. لا جديد. ولكن، لا تروقه الرايات السوداء، التي تقول «لا إله إلا الله». الرجل لطيف ويضحك طوال الوقت، غير أن انزعاجاً ممزوجاً بانعدام الرغبة في إكمال الحديث يقفز من عينيه. إنه خائف، ولكن لا أحد يستطيع الجزم بذلك. «أبو طوني»، الكتائبي العتيق، يقرّ بوجود عوني «مستتر» في الناعمة. سابقاً، «كان العونيون والقوات والكتائب يداً واحدة ضدّ الحارة»، بما مثلته لهم من خصم سياسي خلال الوجود السوري في لبنان، بالدرجة الأولى، وبدرجة أقل «خصم ثقافي». بعد الحرب، لم ينس مسيحيو الناعمة حملات التهجير التي تعرضوا لها. بعضهم يحفظ في ذاكرته صوراً لنشأة حارة الناعمة. رأوها ترتفع أمام أعينهم، نقيضاً «طائفيّاً» لهم. في أوائل التسعينيات «جاء السنة بكثافة». يقول جار أبو طوني في الناعمة، لا في حارتها. يطلق الرجل تحليلاً، بمرارة، يعيد فيه كلاماً مجترّاً من فترة «الإحباط المسيحي» الشهيرة. بالنسبة إلى الرجل، ما حدث في الناعمة حدث في الضاحية. في الفترة نفسها تقريباً، خرج المهجرون من وسط بيروت، الذي صار «الوسط التجاري»، وبدأ الفرز مذّاك. السنّة إلى الناعمة وساحل الشوف، والشيعة إلى ضواحي العاصمة. لا لحية له ليفركها كالسلفي، حارس الجامع. ولا معالم له يذكرها سوى «بيت الكتائب»، و«الدير القديم» المحاصر من الجيش اللبناني في الأعالي. الناعمة كانت أجمل قبل الحرب، يقول ممازحاً، «كانت ناعمة فعلاً». أما اليوم، فالاسم مزحة، مزحة كبيرة. يستند إلى ماضٍ سحيق، هذا صحيح. أما الواقع، فالنقيض. الجو «حامي» والعلاقة بين الناعمة وحارتها تسودها خشونة مغلّفة بتحالفات سياسيّة هشة. ووفقاً لهذه الأجواء، سيسير تاريخ الناعمة معها إلى الأبد. قد يحدث «حسم» ما، ينتهي بإقصاء طرفٍ للآخر، بقضم طرفٍ للآخر، وابتلاعه نهائيّاً. الناعمة تغلي على نار هادئة. وإذا استوت «الأصوليّة» الإسلاميّة، تتبخر حكاية العم «أبو ملحم» عن «العيش المشترك». في الناعمة «المسيحيي خايفين يا خيي».
تصدع عام للوصول إلى جنّة المناصب!
في مطلع التسعينيات، الفترة التي يؤكد جميع السكان أنها شهدت «الفورة» العمرانيّة الأبرز، ظهرت «حارة الناعمة» كنقيض للناعمة الأصليّة. عاش سكان المنطقة في جو «مشحون» لم يخل من صدامات داميّة. واللافت، أن عدداً من السكان، لجأوا إلى المنطقة، بعد «فورة سوليدير»، ومن بين هؤلاء مناصرون لتيار المستقبل اليوم. على الأرض، شهدت البلدة جنوناً عمرانيّاً، استدعى نداءً من رئيس البلدية في العام السابق ذكّر فيه (وما زال يذكّر) بأن مجلس الوزراء كلف بتاريخ 15/11/2001 الهيئة العليا للإغاثة بإخلاء الأبنية المتصدعة في الناعمة، وبأن تدفع لمالك كل شقة مبلغاً يعادل 200 دولار أميركي شهرياً لتدبير مسكن مؤقت له ولعائلته لمدة لا تتجاوز سنة في حد أقصى، مؤكداً أن مجلس الوزراء وافق عام 2003 على اقتراح الهيئة العليا للإغاثة المتضمن طلب تحويل مبلغ 3،5 ملايين دولار لتدعيم مبانٍ في المنطقة. طبعاً، لم يدعّم شيء في الناعمة حتى الآن. لا المباني، ولا السلم الأهلي.