اقتضى الامر مرور اسابيع قبل الحسم. مشهد «الجناح العسكري لآل المقداد» في الخامس عشر من آب، وما تلاه، كان استثنائيا بكل المقاييس. الدولة رهينة العصابات المسلّحة. لكن سلسلة وقائع في الآونة الأخيرة، بيّنت انه في حال توافر القرار السياسي الجدّي، فإن الجيش قادر وبقية المؤسسات الأمنية على تأكيد حضور الشرعية بالفعل وليس بالقول.
لم يكن تفصيلا ان يطلّ الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله في السابع عشر من آب الماضي، اي بعد يومين من «تفشّي» عمليات الخطف، ليعلن ان ما حصل خارج سيطرة «حزب الله» و«امل».
حتى الآن، تختلف الآراء في شأن «مَونة» اهل المقاومة على زعماء الزواريب والاجنحة المسلّحة لـ«العشائر» والمجموعات المسؤولة عن اقفال طريق المطار، وايضا «قبضايات الضاحية» من فارضي الخوات. لكن ما يتسرّب من مداولات مسؤولي «حزب الله» في الغرف المغلقة يكشف عن حاجة القيادة الى التحرّر من عبء الخارجين عن القانون الذين يساهمون في توسيع بقعة زيت «الفساد والممنوعات».
طرحت قيادة الحزب الكثير من السيناريوهات، سواء بالاستعانة بالبلديات أو بالقوى الأمنية، من أجل ختم بعض الأوكار بالشمع الأحمر، وبادرت أحيانا الى تسهيل توقيفات بالجملة، لتكتشف بعد ساعات قليلة أن القضاء أفرج عن الموقوفين بكفالات مالية وسندات اقامة!
ما حصل في الايام الماضية دلل ان نداءات قيادة «حزب الله» المتكرّرة للشرعية بأن «تدخل الضاحية وتتصرّف» لم تكن مجرد دعوة الى عشاء في صحراء...
في الشكل، ثمة امر يجدر التوقف عنده. منذ اللحظة الاولى لبدء عمليات الخطف واطلاق التهديدات، وما استتبع ذلك من قطع طرق، تحرّكت السلطات القضائية المختصة فورا ومن دون انتظار أي قرار سياسي، واصدرت استنابات بحق كل من ظهر منفذا ومشاركا وطرفا في عمليات الخطف ومسائل امنية اخرى، مع العلم بأن البث التلفزيوني المباشر شكّل بحدّ ذاته اخبارا لهذه السلطات.
من هنا، بدَت دعوة رئيس الجمهورية السلطات القضائية لاصدار الاستنابات والسلطات الامنية لتحرير المخطوفين، بعد اسبوع من عمليات الخطف، بمثابة «تحصيل حاصل». القضاء كان تحرّك عفوا... والقيادة في اليرزة حدّدت لاحقا التوقيت وساعة الصفر لتنفيذ الاستنابات وتحرير المخطوفين.
من هذه الزاوية يمكن تفسير بيان مديرية التوجيه في قيادة الجيش يوم الاحد الماضي الذي اشار الى ان المداهمات جرت بناء على توجيهات قائد الجيش وبان القيادة اطلعت الجهات السياسية على الاجراءات المتخذة. موقف استدعى ردا لافتا للانتباه من رئيس الجمهورية من عمشيت الذي عاد و«ذكّر» من يهمّه الامر بانه هو من طلب من وزير الدفاع وقائد الجيش مطاردة خاطفي السوريين وتحرير المخطوفين.
في المحصلة، بدا أن السقف السياسي الذي سمح للجيش بالانتشار وقمع المخالفين في أحياء طرابلس والقيام بواجباته عند الحدود الشمالية والشرقية، هو نفسه الذي شكّل البطاقة الخضراء لدخوله عمق الضاحية الجنوبية، «بتوقيت حدّدته القيادة في اليرزة ولم يفرض عليها او يأتي ربطا باطلاق سراح الضباط الثلاثة (حادثة الكويخات)».
الجيش بهذا المعنى، وخلافا للسيناريو الذي حاول تصوير عملية المداهمات بانها الاولى من نوعها في الضاحية او كأن الجيش يدخل للمرة الاولى «المنطقة المحرّمة»، وجد نفسه امام مهمة دقيقة وحسّاسة، لكن على ارض ليست غريبة عنه، وضمن بيئة بدت متجاوبة الى أقصى الحدود.
للجيش اللبناني مراكز انتشار في الضاحية. في الرويس ومدخل حيّ السلّم والشياح وبرج البراجنة وسط كثافة سكانية كبيرة. آخر المشاهد العالقة في الاذهان توقيف محمد الجوني وشريكه محمد ايوب المتهمين بتأليف عصابة مسلحة للسطو على المصارف وذلك بعد ان تمّ رصد جوني بين بيروت والضاحية والخط الساحلي حتى الرميلة، كما تمت مداهمة شقة يملكها في حيّ الجامع بالضاحية. قبل ذلك جرت مداهمات عدة لتوقيف مطلوبين وعملاء لاسرائيل. كما تدخل عملية تحرير المخطوفين السوريين في قلب حي السلم الدامية في صلب معادلة الحسم في عمق الضاحية.
لم ترفع قيادتا «حزب الله» و«امل» أي «فيتو» بوجه الجيش لدخول الضاحية، لا الآن ولا سابقا. في الوقت عينه بدا من المسلّمات ان الدخول «النوعي» للجيش بهذا الثقل والزخم، لم يكن ليتمّ لولا رفع الغطاء السياسي من جانب «الثنائي الشيعي» عن المسلّحين وجميع من شملتهم الاستنابات القضائية، وكانت البداية بطلب الحزب والحركة، من جميع المحسوبين عليهما ضمن «مجموعات العشائر»، الانسحاب، وهو ما فسره «قبضايات» الضاحية بأن عين الحزب والحركة «صارت حمراء وهما تخليا عنّا».
خضعت منطقة تواجد الخاطفين والمخطوفين منذ الساعات الاولى لبدء الخطف لعملية رصد دقيقة، وقد جاء تحرير المخطوفين، وفق مصدر عسكري، نتيجة جهد استخباراتي كبير. هذا يدحض السيناريو القائل بتسليم «حزب الله» عناوين المعنيين بالاستنابات الى القيادة العسكرية، مع تسجيل تنفيذ الجيش مداهمات في صلب ما كان يعرف بالمربع الامني (سابقا) لـ«حزب الله» في حارة حريك.
ترافق دخول الجيش الضاحية مع قيام «غرفة عمليات» سياسية ادارها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم طوال الفترة الماضية بين بيروت وتركيا باشراف وزارة الداخلية. التنسيق بين اليرزة والمتحف افضى الى تحرير الجيش للمخطوفين السوريين الاربعة، وتمكّن ابراهيم، بعد مفاوضات طويلة، من انتزاع «ورقة» المخطوف التركي من ايدي العشائر.
نهاية امنية - سياسية لملف قد تعدّ الجماعات المسلّحة في المستقبل للعشرة قبل ان تحاول فتحه من جديد. يترافق هذا الواقع مع استعداد القوى العسكرية والامنية لاستكمال تنفيذ المداهمات في البقاع لاتلاف حقول الحشيشة في 18 الجاري، وسط دعوات للجيش «دشّنها» رئيس مجلس النواب نبيه بري، لنقل «عدّة» الحسم من الضاحية الى البقاع، مرددا «إذا كان الامن في يد سلطة موثوقة، كما هي الحال الآن، فإن ذلك يتيح للمقاومة أن تتفرغ لدورها».