البابا آت. في الوقت ذاته، معظمهم لا يعرف من هو «البابا» بالضبط. واحد فيهم يقول إنه آتٍ «من روما». يلامس المعرفة إذ يستدرك: روما في ايطاليا. واحد آخر يجترح تشبيهاً باهتاً: «البابا يحمل الصليب» والصليب «مثل سيف الإمام علي». وفقاً لمسؤول حزبي، فإن حزب الله حشد مناصريه لاستقبال البابا «من المناطق القريبة وحسب». حتى الثانية ظهراً، كان موقع الحشد فارغاً. وصلت طائرة البابا أولاً وقصفت المدفعيّة السماء (احتفالاً) ثانياً، ثم في الثانية وخمس دقائق، نهضت الضاحية. وهرول المستقبلون إلى الظهيرة.
لم يدقق أحد في هويّات المستقبلين. هذا هو الوضع الطبيعي: أن يكون استقبال شخصيّة بحجم البابا «وطنيّاً»، بلا فذلكة «مذهبيّة» أو «عرض عضلات» في المناطق المغلقة طائفيّاً، كما جرت العادة أثناء استقبال رؤساء دول «المحاور»، كتركيا وإيران. غير أننا في لبنان وهذا بحدّ ذاته ليس طبيعيّاً. تحيّة البابا «الخاطفة» للذين طحنتهم الشمس تستدعي سؤالاً حقيقيّاً عن هوياتهم. من هم إن لم يكونوا مؤمنين بقداسة الرجل فعلاً. أولى الإجابات قد تأتي من شرقي المطار. لقد خرجت الضاحية الجنوبيّة لاستقبال سيد الكنيسة الكاثوليكيّة. وإن كان خروجها «رمزيّاً» ولا يقارن باستقبال الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، فإن مشهد مناصري الحزب وهم يوضبون أعلامهم، ويضعونها جانباً، نزولاً عند رغبة الجيش اللبناني، أمر لافت فعلاً. الذي يعرف الحزب ومهرجاناته يعرف «أولويّة» راياته الصفراء. ولكن أمس وضع مناصرون هذه الأعلام في جيوبهم، بطيبة خاطر، مكتفين برفع العلم اللبناني، لا بل إن بعضهم رفع أعلام الفاتيكان، ولوح بها بفرح خالص. وطبعاً، تزامن هذا مع وجود مسيحيين مؤمنين، بعضهم «لم ينم الليل» في انتظار المرجع الروحي الأعلى. وفيما شهدت مناطق أخرى «مقفلة» مذهبيّاً عنفاً «موجهاً ضدّ الغرب»، كان مسيحيّون يعلنون بصراحة قرب المطار، أن زيارة البابا أبعد من أن تكون حدثاً روحيّاً صرفاً. الحدث مسّ صمتاً قديماً بالنسبة لمحبطين بينهم: «لسنا وحدنا في هذا الشرق، لسنا وحدنا في هذا العالم، لسنا متروكين»، قال أحدهم مزهواً، فخوراً بوجود «الشيعة» إلى جانبه في استقبال البابا. على الأرض، وقرب المطار تحديداً، المنطقة المحاطة بالحزبِ وأهله، يمكن الجزم أن صورة يوحنا بولس الثاني تختلف جذريّاً عن صورة بنديكتوس السادس عشر. الأول جاء في زمنٍ بائد كان متاحاً فيه أن يقال «لبنان رسالة»، فكان الحشد أكثر تنوعاً آنذاك. والثاني، يأتي في حاضر، لا يعلو فيه صوت على صوت الحروب المذهبيّة في المنطقة العربية. ومع ذلك، كان الرجل الكاثوليكي المؤمن، في استقبال يوم أمس، متحمساً لزيارة يضعها في خانة «دعم الوجود المسيحي في الشرق»، وجاره من برج البراجنة، حامل المسبحة كأنها جزء من يده، مسروراً بقدوم البابا.
يمكن الجزم أن المشهد في اليوم الأول كان على الشكل الآتي: سار موكب البابا من أمام تحويطة الغدير عند مدخل الضاحية الجنوبيّة، على وقع عزف لكشافة الإمام المهدي (التابعة لحزب الله)، وتصفيق من «الأخوات» المتحمسات للتعرف إليه. البعض رفعوا أعلام الفاتيكان ورسموا إشارة الصليب على صدورهم عندما رأوه، لكنهم قلة «ذابت» بين أفراد كشافة الإمام المهدي، الذين زيّنت قمصانهم صورة للإمام الخميني. وبعدها، عبر الموكب أوتوستراداً ميتاً، لا مستقبلين فيه ولا ملوّحين، حتى وصل إلى الكنيسة. ومرّ البابا، كما في فيلم «لدينا بابا» للمخرج الإيطالي الشهير ناني موريتي، بلمح البصر. لم يروه. مرّ كالريح. ومن هناك، خلف الزجاج المعجون بالقداسة، في «ليموزين» تخص القصر الجمهوري، رفع يده للمحتشدين بالطريقة المعهودة. لكن معظمهم لم يره. مرّ البابا بالضاحية سريعاً، لكنه ضيف محبوب قطعاً، إذ تبادل مع أهلها التحيّات بودٍّ لا جدال فيه.