عندما عرف السجناء المعلومة، قبل أشهر من زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر لبنان، راحوا يعدّون مرور الأيام كما لو أنها مدة حكمهم، إلى أن حلّ اليوم الذي وطأت قدما البابا الأراضي اللبنانية، صباح الجمعة الماضي.
بدا البابا، بالنسبة إليهم، المخلّص، الشفيع لذنوبهم التي يسددون أثمانها، كما يقولون، كل يوم واحد مقابل عام كامل. راقب السجناء خطاب البابا، والخطاب الرسمي، فأحسوا بأن أحداً من الرسميين لم يحدّث البابا عن المفتاح، فقرروا إرسال رسالة لفت انتباه، على طريقتهم، أمس الأول.
جهز سجناء المبنى «ب» عدة الانتفاضة، وأحرقوا كل شيء قابل للاحتراق، من أغطية ووسائد، وكسّروا الأبواب والنوافذ، ثم اجتمعوا في الباحة وعادوا إلى زنزاناتهم محتجزين 12 عسكرياً، فيما كانت القوى الأمنية المولجة بأمن السجن تطلق النار في الهواء.
يروي أكثر من سجين، في اتصال هاتفي مع «السفير»، أن «قائد الدرك توجه إلينا ووعدنا، نقلاً عن وزير الداخلية، بإيصال صوتنا إلى البابا، فأطلقنا سراح العسكر، لكن حتى الآن لم يحدث أي شيء يدلّ على أن الرسالة وصلت، ولذلك، سنجتمع اليوم كي نقرر الخطوات المقبلة».
يقول ب.م.، المحكوم بتهمة السرقة، إن الحياة التي يعيشها السجناء، تشبه «الموت. ولأننا أموات سلفاً، فإن خطواتنا المقبلة لن تكون عادية، وكلنا نشعر أن دماء كثيرة ستنزف في السجن، لقد سئمنا الوعود الرنّانة، واستسلمنا لحياة لا تستطيع الحيوانات تحمّلها. لكن الدماء، على ما يبدو، تحرّك الدولة من كبيرها إلى صغيرها».
عندما تمرّد سجناء المبنى «ب»، بدا لافتاً، خلافاً لعمليات التمرّد السابقة، عدم تحرّك سجناء المبنى «د»، إلا أن موقوفين في «ب» يعلّلون الأمر وفق معطياتهم: «عندنا لا يوجد مخدرات بسبب وجود الإسلاميين، فيما المبنى «د» يزخر بالحبوب المتنوعة، الأمر الذي يجلب لهم الخدر. بالإضافة إلى أنهم يخافون الدولة كثيراً، أما هنا فإن الدولة تخاف من الإسلاميين».
يمتلك كل سجين في سجن رومية أكثر من ملف موثّق، كما يقولون، يفضح «تعاطي القضاء مع أحكامنا، فمنّا من لم يُحكم بعد منذ سنوات، ومنّا من حُكم أحكاماً ظالمة وخيالية. نحن لسنا أنبياء أو رُسلا، لقد أخطأنا، لكن لماذا يتعين علينا العيش في حظيرة، لماذا يتعين علينا الشعور بأننا أموات؟».
وبما أنهم أموات، يقولون، فإن «الدماء لم تعد بعيدة، ويحق لأي أحد اعتبار ما نقول مجرّد تهديد، لكننا سبق وهددنا، ثم نفذنا. لقد سئمنا اعترافات وزراء ونواب، علناً، بسرقاتهم، فيما نحن نُحاسب مليون مرة في السجن، كي نخرج من السجن إلى السرقة مرة ثانية؟ الآن، أصبح كل شيء هدفاً مشروعاً في السجن، من العسكر إلى الوسائد، وربما نتفق على خيارات سلمية، كالإضراب عن الطعام حتى الموت».
ثمة سجين مُتهم بتزوير وثائق عقارات. يقول إن «الخبز الذي نأكله، نرميه على الجدار، فيعود إلينا صلباً، والطعام يجلبوه لنا من القمامة. هم لا يريدون إصدار عفو عام، لكن لماذا لا يعملون على تنظيف القضاء، ثم تنظيف السجن الذي لا يستطيع أن يعيش فيه جرذ؟».
في المقابل، ينفي وزير الداخلية، في حديث مع «السفير»، أن يكون قد «وعدت أي سجين بتسليم المفتاح إلى البابا، فكيف أفعل ذلك وهم موقوفون ولم يُحاكموا بعد، فيما العفو العام يصدر على المحكومين؟»، مشيراً إلى أن «من قاموا بالتمرّد لم يُحاكموا بعد».
ويقول شربل إن «قاعة المحاكمات الجديدة، بالقرب من سجن رومية، تقارب الانتهاء من البناء، كي تصبح جاهزة لاستقبال المحاكمات»، لافتاً إلى أن «ما يطلبه السجناء محق، وأنا أشعر معهم، لكن القضاء في عطلته السنوية حالياً، وما إن تنتهي في نهاية الشهر الجاري، حتى يعود العمل فوراً».
ورداً على التهديد الذي أعلنه السجناء لـ«السفير»، يقول شربل: «ما هي الاستفادة من التصعيد؟ هم يعرفون أنني معهم، ولو يعود الأمر لي فإنني مستعدٌ لفتح أبواب السجون كلها، لكن ثمة إجراءات قانونية، وعليهم الانتظار».
تمرّد أمس الأول، من احتجاز عسكر وإحراق وتكسير محتويات، رسالة لم تصل إلى البابا لأن أحداً لم ينقلها إليه. البابا غادر لبنان، والمفتاح لم يعد الأساس الآن.
عود على بدء: «لماذا يتعين علينا أن نموت كل يوم؟ نحن لسنا أنبياء، نعم أخطأنا. لكن تخيّلوا، أنتم من تقولون إنكم السلطة الرابعة، أن أحداً من أولادكم يعيشُ في حظيرة، ويموت كل يوم. فماذا تفعلون؟»، يسأل سجين لم يُحاكم بعد، منذ عام ونصف.