وهذه المشيئة الإلهية في عدم تقييد أفعال العباد اقتضتها الطبيعة الاختبارية التي قامت عليها هذه الحياة، فهي قاعة اختبار، يُترك الإنسان فيها ليفعل ما يشاء، ويختار ما يشاء، من عقيدة وأخلاق وأفعال وسلوك، فلا يُجبر على شيء من ذلك ابتداء، ثمّ يموت ويفنى، ثم يقدم على ربه يوم الحساب ليلقى جزاء أعماله، وليعرف نتيجة ذلك الاختبار المتقن، فإمّا إلى جنة وإمّا إلى نار.
ولولا تلك المشيئة الإلهية الجارية في الحياة منذ خلقها إلى انتهائها لعرفتَ كيف يدافع الله تعالى عن حبيبه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أن الأشياء كلها التي استخدمتها في قذارتك تلك لن تستجيب لك، بل ستلعنك وتكون نارا تحرقك، وكيف أن عينيك ويديك ورجليك ستتجمّد بمجرد تفكيرك بصنيعك الدنيء، بل إن عقلك نفسه سيتلاشى قبل ذلك. لكن مشيئة الله تعالى فوق كل مشيئة، فترك لنمرود اختيار إيذاء إبراهيم عليه السلام، ولفرعون اختيار إيذاء موسى عليه السلام، ولليهود اختيار إيذاء عيسى عليه السلام، ومن قبلك لأبي جهل وأبي لهب وغيرهم من عتاة مكة اختيار إيذاء خاتم الرسل وأشرفهم، بل أشرف الخلق والكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وترك ليزيد وعمر بن سعد والشمر اختيار قتل الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه وسبي نسائه. ترك لكل أولئك اللعناء الجبابرة الطواغيت الاختيار في ركوب أشنع المعاصي وأفظعها وأقبحها، اختباراً وامتحاناً، لهم ولغيرهم، لأنها الدنيا دار الامتحان، وقاعة الاختبار الكبرى، والتي يكون أكثر الممتحنين فيها هم من الراسبين الفاشلين "ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون"، لأنه امتحان صعب متقن مُحكَم، طويل النفَس، لا ثغرة فيه، لأنه اختبار أبرمه الحكيم العليم القدير الحليم.
فإن رأيت الأسباب والوسائل طاوعتك في صنيعك القذر الشنيع، فإنما هي طاوعت الله عز وجلّ في مشيئته، فليس لها أن تستنكف عن الانقياد لما أمرها، لكنّها تسجّل في ذراتها شهادة ضدك وعليك، تعرضها يوم يقوم الناس لرب العالمين، وعلى رؤوس الأشهاد، وقد خاب من افترى. فلا تظنّن الله بغافل عمّا يفعل الظالمون، إنّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
الأرض التي تطؤها تلعنك، وأعضاؤك تلعنك، وكلامك يلعنك، ولو كُشف لك الحجاب لرأيتَ نفسَك تلعنُ نفسَك، وحياتَك تلعن حياتَك، ولرأيتَ كيف أن كل شيء من حولك يلعنك ويزدريك ويتقزز منك، ولرأيتَ أن ملكوت الله تعالى كله يلعنك ويتأفف من وجودك، بل لرأيت وجودك نفسه يتأفف من وجودك! لكنّك أشد العميان عمىً، وأبعد الغافلين غفلةً، وإن نفسك أيها الرجس الرخيص لهي موطئ أقذر الشياطين، ومطية أشنع الذنوب، وأقبح الموبقات، وإنك معبر للأهواء والمفاسد كلها، ومستودع لكل أصناف الشرور، ولو لم تكن كذلك لما ركبت هذا الذنب الشنيع الفظيع.
وعلى كل مسلم في الأرض أن يحاسبك ويقتص منك، لأنك اعتديت على عقيدة مليار وأربعمئة مليون مسلم، فيجب أن تذوق مليارا وأربعمئة مليون موتة قتلاً، بعذاباتها وأهوالها، ثم يبقى حق رسول الله خاتم الأنبياء، وهو أكثر من ذلك بكثير. فللمليار والأربعمئة مليون مسلم ثأر عندك كبير، فما أعظم ديْنك، وما أفدح ذنبك، وأقبح ما جلبت على نفسك يا مرتع الشياطين!
ومع ذلك سأقول لك وأختم يا أخسّ المخلوقات وأدنأ الموجودات، أتعلم لو أن هذا الرسول العظيم الذي أهنته وشوهت سيرته وتجرأت على مقامه العظيم، لو أنه بُعث الآن ما كان فاعلاً بك؟ ماذا تتوقّع أن يصنع لو ظفر بك؟ نفسك المريضة ستتصور كل أنواع الانتقام التي اعتاد أن يمارسها الدونيون من أمثالك، والطينيون من نظرائك، ستتصوّر أن نبينا سيحرقك بعد أن يصلبك شهوراً، أو أن يقطع لحمك ويرميه للكلاب الضالة، أو أن يصهرك بالأسيد، أو يطحنك بالحديد، أو يثقبك كالمنخل بالرصاص، أو يدفنك حيا في الثرى، ستتصوّر كل ما يخطر لك من ميتات شنيعة مهولة. وسأقول لك أيها الوغد، لن يحدث شيء من هذا أبدا، إن هذا العظيم الكريم الحليم سيعفو عنك! سيشملك برحمته العظيمة وبرأفته النادرة، نعم سيفعل ذلك، لأنه فعل ذلك مع أوغاد من قبلك آذوه وشتموه وكذبوه وتآمروا على قتله وألقوا الأوساخ على رأسه وهو ساجد، ورجموه بالحجارة وأدموه، ثم جيّشوا الجيوش وشنّوا عليه الحرب تلو الحرب، حتى نصره الله عليهم وظفر بهم فقال: ما تظنّون إني فاعل بكم؟ قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء! وسيقول لك يا هذا: اذهب فأنت الطليق. هذا هو نبينا.