باقتضاب وعبارات مباشرة، قدّم رئيس الجمهورية ميشال سليمان تصوّره للاستراتيجيا الوطنية للدفاع إلى طاولة الحوار الوطني في جلسة البارحة. لم يقرأه، مكتفياً بتوزيعه عليهم، فاستمهلوا بدورهم الوقت لدرسه ومناقشته بتأنّ إلى الجلسة التالية لطاولة الحوار، التي حُدّدت في 12 تشرين الثاني. بالتزامن مع تسلّم الحاضرين التصوّر، عُرض على شاشة كبيرة في قاعة الاجتماع تُبثّ عبرها في الغالب الوثائق التي يبحثون فيها أو يستفسرون عنها.
هكذا انضم رئيس الجمهورية إلى الأفرقاء المعنيين بمناقشة الانقسام الحاد حول سلاح حزب الله. في الساعات السابقة لالتئام طاولة الحوار، أجرى سليمان مراجعة لتصوّر كان قد أعدّه قبل شهرين، وأدخل عليه في مراحل متفاوتة تعديلات ركّزت على قواعد حلّ يُزاوج الجوانب الدستورية والقانونية بالآلية العسكرية، آخذاً في الاعتبار الأمر الواقع الذي يطبع هذه المشكلة الشائكة.
غير أن انطباعات أولية عن توزيع التصوّر الرئاسي أفضت إلى ملاحظات:
أولاها، أن رئيس الجمهورية لم يتصرّف كمتفرّج إلى طاولة الحوار، ولا اكتفى بدور الحَكَم معطّل القدرات، بل صاحب مبادرة كالآخرين. يسعه التدخّل عندما يبلغون المأزق، ويستخلص قواسم مشتركة محتملة من تصوّرات متناقضة أُدلي بها على طاولة الحوار، ويقدّم مسودة حلّ برسم المناقشة والتفاهم.
ثانيها، اتسمت ردود الفعل الأولى لأفرقاء الطاولة بالتروّي والهدوء من دون أحكام مسبقة، برّرها أن أياً منهم لم يشأ إبداء رأي مستعجل قبل استنفاد قراءة التصوّر وتقويمه وتكوين اقتناعات إضافية. لم يقع التصوّر على أي من طرفي النزاع، قوى 8 و14 آذار، وقع الصدمة. ولم يرغب أحدهما ـــ ولا كلاهما معاً ـــ في رفض تصوّر قد لا يُرضيهما تماماً، ولا يستجيب مواقفهما السياسية: تريد قوى 14 آذار تجريد حزب الله من السلاح، بينما يتمسّك الفريق الآخر ـــ وخصوصاً الحزب المعني ـــ بإبقاء السلاح بين يديه وكذلك إمرته عليه. بيد أن تصوّر رئيس الجمهورية جاء مخالفاً لوجهتي نظرهما: لا يعطي قوى 14 آذار كل ما تريد الحصول عليه، ولا يأخذ من حزب الله كل ما يتشبّث به.
ثالثها، رسم سليمان ضوابط الاستراتيجيا الوطنية للدفاع تحت ثلاثة سقوف سميكة تظلّل الاستقرار الداخلي والتفاهم الوطني ولا تضع لبنان في مهبّ التهديدات الخارجية هي: اتفاقية الهدنة مع إسرائيل (1949) والقرار 1701 والتحرير. لكنه حدّد قبل ذلك ثلاثة أعداء هم إسرائيل والإرهاب وسلاح الداخل بين أيدي اللبنانيين والفلسطينيين.
والواضح أن تصوّر رئيس الجمهورية سيفتح باباً واسعاً، من الآن وحتى 12 تشرين الثاني، على جدل مستفيض في تحليله واكتشاف ثغره ومحاولة استغلاله سياسياً. إلا أنه يُبرز معطيات منها:
1 ــ لا يتكلم التصوّر عن تجريد حزب الله من سلاحه. وقد لا يكون في وسع الجيش، في الوقت الحاضر على الأقل، استيعاب ترسانة ضخمة من الأسلحة الثقيلة والصواريخ وأجهزة الاتصال المتطورة التي يملكها الحزب، وقد لا يملك ربما في واقع الأمر نظيراً لها في مخازنه. إلا أنه يتحدّث صراحة عن وضع إمرة هذا السلاح في عهدة الجيش، لا وضع السلاح في مشاغل عتاده وثكنه. يشدّد على حصرية السلاح في يد الدولة من دون أن يكون بالضرورة سلاحها. إلا أنه ليس سلاحاً مسيّباً، ولا يؤتمر من خارج القيادة العسكرية اللبنانية.
ويكمن المغزى السياسي في هذا التحديد في إحالة التصوّر الحلّ المقترح على مرجعية دستورية هي المادة 65 ببنديها الرئيسيين: خضوع القوات المسلحة للسلطة الإجرائية، وحالتا الحرب والسلم.
2 ــ توخّى التصوّر توجيه الانتباه إلى الأهداف الرئيسية لاستيعاب سلاح حزب الله سوى تحرير الأراضي المحتلة، وهي اثنتان: عدم استخدام هذا السلاح في النزاعات والخلافات الداخلية، وعدم استخدامه في الصراعات الإقليمية المسلحة في إشارة صريحة إلى الكثير ممّا قيل في الفترة الأخيرة سواء على لسان مسؤولين في حزب الله أو مسؤولين إيرانيين، وهو أن الحزب لن يقف مكتوف الأيدي في حرب إيرانية ـــ إسرائيلية محتملة.
بذلك رمى التصوّر إلى تثبيت التفاهم على أحد أبرز بنود «إعلان بعبدا» الذي قرّرته طاولة الحوار الوطني في جلسة 11 حزيران، وهو تحييد لبنان عن النزاعات الإقليمية وعدم توريطه في حروب ليس طرفاً فيها، أو إقحامه في صراعات تتجاوز قدراته على احتمالها أو الغرق في وحولها. يُقال ذلك عن إيران مقدار ما يقال عن سوريا. ويصحّ على حزب الله المتورّط في دعم نظام الرئيس بشّار الأسد ضد معارضيه، كما يصحّ على تيّار المستقبل الذي يصرّ على خوض معركة إسقاط النظام عبر تسيّب الحدود اللبنانية ـــ السورية أمام المسلحين وتهريب السلاح.
3 ــ لم يقل تصوّر رئيس الجمهورية إنه يريد أن يأخذ من حزب الله ما لا يريد أن يعطيه، ولا يفترض رئاسة الجمهورية قادرة على إجراء مقايضة السلاح بمكاسب سياسية، ولا هو أوان الخوض في تسوية سياسية جديدة تعيد ترتيب توازن القوى الداخلي خارج ضغوط سلاح يستأثر به فريق دون سواه ويرجّح قوته في إدارة هذا التوازن. لم يأخذ التصوّر من الحزب كي يعطي قوى 14 آذار، رغم أنه يوحي بانحيازه إلى هذا الفريق منه إلى حزب الله الوحيد الذي يملك أن يعطي، أو لا يعطي. لكن افتراق التصوّر عن قوى 14 آذار، رغم استمرار مناداتها بحصر الإمرة وقرار الحرب والسلم بالجيش ــ وهو ما تضمّنه التصوّر تماماً ـ أنها راحت تطالب منذ اندلاع الاضطرابات في سوريا بتجريد حزب الله من سلاحه.
كذلك لا يوحي التصوّر بأنه يريد طمأنة حزب الله إلى مصير سلاحه من خلال وضع إمرته في يد الجيش. والواضح أن الرئيس حاذر في تصوّره كل الالتباسات المتناقضة المحيطة بالموقف من السلاح، بإيراده عبارة «عناصر القوة» المولجة بالجيش. يستخدم الجيش هذه العناصر ولا يضع اليد عليها، أو ينتزعها من أصحابها.
بل يحاول مقاربة الانقسام حول سلاح حزب الله بتفكيك عقده المتراكمة لسنوات طويلة، واحدة تلو أخرى، بدءاً بتأكيد العبارة التي أوردها سليمان عندما تحدّث عن مقاومة تبدأ بعد الاحتلال، وعندما أهمل مطالبة المعارضة حزب الله بالتخلي عن سلاحه. اكتفى بتأكيد بقاء هذا السلاح بين يدي الحزب، لكن إمرته عند الجيش فقط. الأمر الذي يحتّم في مرحلة لاحقة بعد توفير التوافق الوطني العام على التصوّر ــ إذا حدث ــ تكليف قيادة الجيش وضع الآليات العسكرية اللازمة لتحقيق أهداف مراقبة السلاح وتنظيم إمرته، وسبل استخدامه في ضوء خيارات القيادة العسكرية وقراراتها، وتحديد أوان هذا الاستخدام لمؤازرة قوى الجيش لا يتدخّل فيه حزب الله، ولا يطابق سياساته الداخلية أو الإقليمية.