أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

بيـوت فـوق «بـراكيـن»

الإثنين 24 أيلول , 2012 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,595 زائر

بيـوت فـوق «بـراكيـن»

تقدم سكان بناية خالد عبدو الكائنة في شارع المعلوف المتفرع من مار الياس، قبل عام من اليوم، بشكوى خطية إلى محافظ بيروت بعنوان «التحقق لإزالة خطر داهم محتمل». طلب السكان يومها التحقق من سلامة مستودع، يقع تحت البناء مباشرة، حيث تتكدّس بشكل عشوائي مواد شديدة الاشتعال وكرتون وبلاستيك من دون ترخيص من المراجع المختصة. 

خاف السكان من وقوع حريق تصعب السيطرة عليه، في حال اندلاعه، يهدد حياة عشرات العائلات في البناء الذي يتألف من 44 شقة، إضافة إلى المحال التجارية فتقدموا بالشكوى المذكورة. وثقت الشكوى في «مديرية مصلحة الشؤون الإدارية» في بلدية بيروت، تحت الرقم 15112.

علم السكان لاحقاً أن «مصلحة المؤسسات المصنفة» في البلدية كشفت على المستودع، لكنهم لم يتبلغوا شيئاً بشكل رسمي. راجعوا في الشكوى مرات عدة، آخرها منذ بضعة أيام، فلم يحصلوا إلا على الجواب التالي: «نحن نتصل بكم».

ليست حالة بناية عبدو فريدة من نوعها، ففي مدينة بيروت وضواحيها العشرات وربما المئات من الحالات الشبيهة لمستودعات أو حتى معامل تقع في أبنية سكانية وتسبب خطراً «نائماً» على السكان قد يستيقظ في أي لحظة. هذه الحالات والنماذج لا تظهر للعيان إلا بعد وقوع الكارثة على رأس القاطنين في البناء، أي اندلاع الحريق.

يشرح محامي بناية عبدو ووكيلها محمد بكار أن وضع البناية التي تبلغ من العمر ثلاثين عاماً كان دوماً سليماً ولا تعاني من أي إشكاليات حتى العام الماضي «يومها بدأ استخدام المستودع لتخزين مواد سريعة الاشتعال، كما أدخلت آلة صناعية كبيرة إليه». 

يشارك جهاز الدفاع المدني بإطفاء ما بين 10 و15 حريقاً كبيراً في نطاق بيروت الكبرى كل عام، وفق ما يؤكد رئيس العمليات جورج أبو موسى. ويجزم هذا الأخير أن غالبية المستودعات في بيروت تغيب عنها شروط السلامة العامة الضرورية مثل وجود مدخلين، ونظام إطفاء أوتوماتيكي (يعمل تلقائياً عند انطلاق الدخان أو عند ارتفاع الحرارة)، واعتماد الطريقة الصحيحة في التخزين (يجب أن لا يتعدى السبعين في المئة من مساحة المستودع بما فيها الارتفاع)، ووجود ناطور دائم.

ويتحدّث أبو موسى الذي شارك في عمليات الدفاع المدني لأكثر من ثلاثين عاماً أن واحداً من المستودعات المخالفة التي شارك الدفاع المدني في إطفائها مرة لم يزد مدخله «الوحيد» عن متر واحد من العرض، ما يسبب بالطبع بعرقلة عملية الإخماد وتأخيرها. وتصير المهمة أصعب عند اندلاع حريق المستودع ليلاً ما يفرض المزيد من الوقت للمعرفة باندلاعه، إضافة إلى كونه مقفلاً. 

تشمل المواد المعرضة للاحتراق داخل المستودعات، وفق أبو موسى، كل شيء باستثناء مادة الحديد. مثل الخشب، المطاط، البلاستيك، النايلون والورق. وتتعدد أسباب اندلاع الحريق كذلك. فقد يكون بسبب احتكاك كهربائي، أو تفاعل مواد مع بعضها البعض، أو أعقاب سيجارة، أو آلات تتسبب باندلاع شرارات نار. 

ويتسبّب اندلاع حريق في البناء، غير الخسائر البشرية والمادية، بإضعاف مواده بنسبة تراوح بين 20 و25 في المئة بسبب تمدّد الحديد خلال الاحتراق ومن ثم تقلّصه لاحقاً ما يؤدي إلى فراغ بينه وبين الاسمنت.

 

تضارب في الصلاحيات

 

يروي أحد محافظي بيروت السابقين أن نائباً اتصل به ذات يوم سائلاً إياه إعطاء رخصة لمستودع للغاز داخل بناء سكني. سأل المحافظ النائب «الوقح» يومها: هل في إمكانك النوم في بيتك إذا كان في بنائك مستودع للغاز؟ صمت النائب ولم يردّ. لم يعط المحافظ الترخيص بالطبع. لكن ذلك يقدم فكرة عن نوعية الخدمات «الخطرة» أحياناً، التي يطلبها المسؤولون من دون الاهتمام بالسؤال عن تبعاتها.

وعدا أن العشرات من المستودعات والمعامل غير مرخصة، إلا أن ما يزيد من انتشار هذه الفوضى هو التضارب في الصلاحيات والقوانين للمرخصة من بينها. يؤكد مصدر متابع من «مصلحة المؤسسات المصنفة» في بلدية بيروت أن «أكثر هذه المصانع تنال تراخيصها من وزارة الصناعة التي تصدرها من دون العودة إلى المجلس البلدي. وأحياناً تعطي وزارة الصناعة الترخيص بعدما تكون المصلحة، قد رفضت ذلك لأن الملف غير مكتمل المستندات (غياب قانونية البناء مثلاً)».

ويؤكد المصدر في «مصلحة المؤسسات المصنفة» في بلدية بيروت أن هذه المستودعات أو المعامل أو حتى المحال ليست غير مرخصة فحسب، بل إن عدداً منها صدرت بحقه إنذارات وقرارات بالإقفال لم تطبق، مثل «سوق البسطة للمفروشات» الذي اندلع فيه حريق كبير في شهر آب من العام الماضي وأتى على العشرات من المحال التجارية. يقع هذا السوق في بناء من 13 طبقة، ثمان منها سكنية. 

يشرح رئيس «شبكة سلامة المباني» المهندس المعماري يوسف عزام أنه «في قانون التنظيم المدني هناك ما يعرف بـ«تقسيم المناطق»، حيث يتم تصنيف الأراضي إلى «سكني»، و«صناعي»، و«سياحي». وبناء لهذه التصنيفات يتم تشييد الأبنية السكنية». ويضيف أن أي معمل أو مستودع قيد الإنشاء يجب أن يخضع لمجموعة من المعايير أبرزها: الموقع (ضمن منطقة مصنفة لاستيعابه)، وطريقة تصميم المبنى (سماكة الإسفلت، نوعية الحديد المستخدم)، والتمديدات الداخلية والخارجية الخاصة بالحرائق. ففي المناطق الصناعية مثلاً، طرق واسعة خاصة بمرور الشاحنات وسيارات الإطفاء.

يؤكد عزام أنه لا يمكن إنشاء معامل أو مستودعات ضمن الأبنية السكنية بشروط خاصة «لها تأثير على سلامة المواطنين» وهو ما يتفق معه تماماً أبو موسى الذي يؤكد أنه «بالمبدأ يجب منع إنشاء مستودعات في الأبنية السكنية لما لهذا الأمر من تأثير على السلامة العامة». ويشير عزام إلى أن مسؤولية الملاحقة القانونية عن هذا النوع من الأخطار تنقسم ما بين البلدية «القادرة على المتابعة والتي تمنح الرخص للمحال المستحدثة» والوزارات المعنية «مثل الصناعة (المصانع) أو السياحة (المؤسسات السياحية)».

 

«إلى الأبد»

 

يلفت عزام إلى أنه في مدن عربية مثل دبي وأبوظبي الإماراتيتين يتم تجديد رخص المعامل سنوياً بناء لحالة البنى التحتية فيها مثل الكهرباء والمياه وسلّم الهروب وإمدادات الحرائق. 

يفرض تجديد الـــترخيص التحقـــق من قائمة شروط طويلة. ويشمل هذا الأمر أيضاً المجمعات التجارية العملاقة. بينما في لبنان يكـــون الترخيص عادة لمرة واحدة فقط ويدوم «إلى الأبد».

يوم اندلع حريق عين الرمانة الشهير في تشرين الثاني من العام 2010 في أحد المستودعات التي تقع في مبنى سكني خرج وزير البيئة يومها محمد رحال ليصف الحريق بالـ«كارثة»، مشيراً إلى أن المواد الموجودة في المستودع «تسببت حين احتراقها بإنتاج غازات مسرطنة والدخان اليوم ينتشر في كل بيروت». 

وتحدث رحال يومها عن إجراء مسح على كل المستودعات الموجودة بين المباني السكنية وتبيان وضعها القانوني «فإذا كان قابلاً للحصول على ترخيص حيث هي يعطى الترخيص وإلا سنوجه إنذارات لعشرات المستودعات المشابهة والموجودة في مختلف المناطق السكنية لإزالتها في مدة أشهر محددة». 

يستشهد عزام بهذه الحادثة ليؤكد بأن هذا الأمر «مجرد كلام. لا يمكن أن نقوم بهذا الأمر من دون تأمين البدائل». وإلى حين تأمين البدائل سينام اللبنانـيون فوق قنابل موقوتة قد تنفجر في أي وقت.


Script executed in 0.18791484832764