وقد تكون تجربة عون جابر الاغترابية مثالا لمجمل تجارب أبناء مدينته، بنت جبيل، فجابر هاجر إلى الولايات المتحدة في العام 1978 وحط رحاله في مدينة ديربورن بولاية ميشيغن. وهو يدرج تجربته الاغترابية في "سياق مخطط مدروس لتفريغ الجنوب اللبناني من أبنائه من أجل تخفيف الضغط على الوجود الإسرائيلي في منطقة شمال فلسطين لاسيما وأن بنت جبيل كانت من بين المدن التي إحتضنت الحركات النضالية والفدائية ضد الإسرائيليين".
(عون جابر.. لا أفكر بالرجوع مادام لبنان على كف عفريت)
ويعود جابر بذاكرته إلى الوراء لأكثر من أربعة عقود، ويقول: "بدأت هجرة أهالي بنت جبيل في العام 1969 عندما حضرأحد موظفي القنصلية الأميركية ويدعى أغوب كولسيان، إلى المدينة وقام بتوزيع عقود عمل على الناس تشجيعا لهم على الهجرة إلى أميركا.. اليوم تبدو لي هذه الحقائق ذات دلالات واضحة!".
ويشير جابر الى أنه خلال الفترة الأولى، حصل ما يقارب الـ70 شخصا من أبناء بنت جبيل على تأشيرات عمل في أميركا، وكانوا في معظمهم من العاملين في مجال صناعة الأحذية، وقد قام كل واحد من هؤلاء بمساعدة واستقدام المهاجرين من ذويهم وأقاربهم ومعارفهم. وتقدر أعداد أبناء بنت جبيل المقيمين في مدينة ديربورن بأكثر من عشرة آلاف شخص، بحسب جابر.
ويضيف في هذا السياق: "لقد قمت بنفسي بإحضار أكثر من 50 مهاجرا سواء عبر توفير عقود عمل، أو عبر الاستفادة من قوانين الهجرة في أميركا المعروفة بلم الشمل".
ورغم إكمال دراسته وتخرجه من "جامعة وين ستايت" حاصلا على درجة الماجستير في التربية في العام 1983، إلا أن جابر آثر الرجوع إلى الوطن، حيث مكث في لبنان لمدة ستة أشهر، ولكن فشله في الحصول على عمل أجبره على الرجوع إلى ديربورن ليعمل في مجال الأعمال الحرة. ويقول: "بعد عودتي من لبنان لم أعمل في مجال تخصصي الدراسي، التعليم، لأنه لم يكن يدر مدخولا كافيا، فآثرت الدخول في سوق محطات البنزين، وما زلت أعمل فيه حتى الآن، إلى جانب تدريسي اللغة العربية للطلاب المبتئدين في جامعة وين ستايت في مدينة ديترويت".
ويعلل جابر توجه الكثير من اللبنانيين إلى العمل في أسواق محطات البنزين بالقول: "إن المسألة ذات بعد حضاري وثقافي، فالأقليات المهاجرة عادة تختار مهنا معينة وتعتمدها وبالتالي تتوارثها، فأكثر اللبنانيين الذين جاؤوا الى أميركا إمتلكوا محطات بنزين وكانوا إذا أرادوا مساعدة المغتربين الآخرين، سواء أكانوا من ضمن نطاق العائلة أو خارجها، قاموا بتشغيلهم في تلك المحطات وهكذا دواليك، بالإضافة إلى أن هذا النوع من العمل لا يتعارض مع الثقافة الإجتماعية والخلفية الدينية التي تربينا عليها".
وأميركا ليست "أرض عسل ولبن" و"الحلم الأميركي" ليس بلا أثمان، وقد تكون الأثمان باهظة في بعض الأحيان، فمنذ خمس سنوات تعرض جابر لحادثة كادت أن تودي بحياته عندما هاجمه أحد السارقين موجها له عدة طعنات نجا منها بأعجوبة بعد أن فقد إحدى كليتيه على أثر الهجوم. يرفض عون التعليق على الحادثة بالقول: "كانت الحادثة مدمرة ومخيفة ولكنها لم تثنِ عزيمتي عن الاستمرار في الحياة.. في أميركا".
ويضيف في هذا الخصوص: "أميركا بلا هوية نهائية بل هي بلاد تبقى هويتها تتشكل باستمرار وهي بالإضافة إلى ذلك.. بلد الحريات المدنية والاعتراف بالآخر وبلد الإنجازات العلمية وآفاق العمل المفتوحة ".
تشعر بالحزن وهو يتسرب من خلال كلمات جابر وهو يتحدث عن العودة إلى لبنان، وطنه الأم، لكنه يؤكد أن المسألة أصعب من مجرد إتخاذ القرار بالعودة، "لأن حياته وحياة أبنائه أصبحت هنا" ويستدرك بأن الأوضاع في لبنان لا تساعد أصلا لأنها "على كف عفريت.. ومادام النظام اللبناني يربط الدين بالدولة فلا أمل بالعيش بسلام وأمان".
من ناحيته، يعتبر محمد طرفة من الرعيل الأول من مهاجري بنت جبيل إلى الولايات المتحدة الأميركية، وقد ولد أساسا لأب مهاجر في العام 1931 وعاد مع عائلته إلى لبنان وهو في عمر ثلاث سنوات قبل أن يعود إلى أميركا في العام 1946 ليستقر فيها بشكل نهائي.
(الحاج محمد طرفة من مؤسسي نادي بنت جبيل الثقافي الاجتماعي)
ويقول طرفة وهو يتذكر تلك المرحلة: "عندما جئت إلى أميركا لم يكن في ديربورن أكثر من 30 عائلة لبنانية، وقد بدأت موجات الهجرة بالازدياد في أواخر خمسينات القرن الماضي وازدادت كثافة المهاجرين من مدينة بنت جبيل خلال عقد الثمانينات بقدر ملحوظ.. واليوم تقدر أعداد أبناء بنت جبيل القاطنين في مدينة ديربورن بين 15 ألف و 18 ألف نسمة".
وبتوالي الهجرات اللبنانية (والعربية الأخرى) أصبحت ديربورن قبلة للمهاجرين القادمين من العالم العربي فازدادت الحاجة إلى إنشاء مؤسسات دينية واجتماعية وثقافية تعمل على المحافظة على القيم التراثية ومجمل العادات والتقاليد الاجتماعية. وفي هذا الإطار، نشطت الجالية اللبنانية في تكوين مؤسسات ومنظمات ونواد متنوعة، كانت باكورتها مع "المركز الإسلامي في أميركا" و"نادي بنت جبيل الثقافي الاجتماعي".
وكان طرفة من الأعضاء المؤسسين لـ"نادي بنت جبيل" الذي أطلق العمل فيه في العام 1992 كمشروع يؤكد "على الوفاء للوطن الأم ولتاريخ مدينة بنت جبيل العريق، مدينة المقاومة والصمود والتحرير، ومن أجل حماية هوية وجذور الأجيال القادمة من اللبنانيين"، بحسب طرفة.
وقد تبرع الأعضاء المؤسسون بنصف كلفة المشروع البالغة مليونا وربع المليون دولار فيما تم اقتراض النصف الثاني من البنك، واستطاعت إدارة النادي إيفاء جميع الديون المترتبة على النادي بعد 7 سنوات، ويكاد يكون نادي بنت جبيل هو المؤسسة العربية الوحيدة التي بلا ديون في المنطقة.
وقد قاد نجاح النادي جالية بنت جبيل إلى التفكير بإطلاق مشروع جديد في مدينة ديربورن باسم "مركز بنت جبيل للخدمات الاجتماعية" على أن يبدأ العمل فيه في العام 2015 ومن المخطط أن يضم قاعة للحفلات تتسع لـ1400 شخص وحسينية تتسع لـ1000 شخص إضافة إلى 8 مكاتب خدماتية و8 صفوف تعليمية لتدريس اللغة العربية.
وبالرغم من أن النادي يحمل إسم بنت جبيل إلا أنه يفتح أبوابه لكل أبناء الجاليات العربية بدون استثناء أو تمييز كما يقوم بتقديم ما بين 50 و60 منحة دراسية سنوية للطلاب العرب المتفوقين، فضلا عن استضافته لندوات شهرية ثقافية واجتماعية وطبية وأدبية وشعرية تتناول مواضيعها وعناوينها هموم أبناء الجالية واهتماماتهم.
(لوحة تذكارية تضم أسماء مؤسسي نادي بنت جبيل الثقافي الاجتماعي في ديربورن)
وأشار طرفة إلى أن النادي يقدم مساعدات مادية للمحتاجين المعوزين والمرضى المحتاجين لإجراء عمليات جراحية مكلفة، كما يقوم باستقبال وتكريم القادمين من لبنان من الشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية المعروفة والتي كان آخرها استقبال البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي.
(صالة الحفلات في نادي بنت جبيل الثقافي الاجتماعي)
وعلى العكس من معظم مهاجري بنت جبيل في مدينة ديربرون، مايزال خليل الصغير يحلم يوميا بالعودة إلى مسقط رأسه ومرتع صباه في بنت جبيل، فهي "الجنة والحلم الذي أصبو إليه"، حسب ما يقول، ويضيف: "مشروع العودة إلى الوطن مشروع قائم ومطروح بصورة يومية، كما أنني أزور بنت جبيل سنويا، واليوم تحديدا (وقت إجراء المقابلة) تتوجه زوجتي وابنتايّ إلى لبنان على أن ألحق بهم في القريب العاجل".
ومثل معظم أبناء بنت جبيل المهاجرين، قرر الصغير الإقامة في مدينة ديربورن ذات الكثافة اللبنانية فانتقل إليها من ولاية تكساس التي كانت محط رحاله الأول في الأرض الجديدة منذ 24 عاما، لكن عديد السنوات وزحمة الحياة الأميركية ومتطلباتها المرهقة لم تزد الشاب المهاجر إلا حبا وشوقا إلى مدينته الجنوبية، فأنشأ في العام 1999 موقعا إلكترونيا بإسم "بنت جبيل. كوم" قبيل تحرير الجنوب اللبناني ببضعة أشهر.
وقد اجتذب هذا الموقع الكثير من المتصفحين والزوار خلال حرب تموز 2006 كما أصبح مصدرا للمعلومات والأخبار للعديد من وسائل الإعلام الأميركية والعالمية بينها قناة الـ"سي أن أن" الأميركية وإذاعة "بي بي سي" البريطانية.
وحول أسباب إنشاء الموقع الالكتروني واختيار الإسم، قال خليل: لم يكن اختيار إسم الموقع محض مصادفة، فمن المعروف عن أهالي بنت جبيل، هذه المدينة الصامدة، تعلقهم القبلي بها.. وأذكر في السياق قهوة بنت جبيل التي أنشأها أهالي بنت جبيل النازحين إلى منطقة برج حمود والنبعة والضاحية الشرقية في مدينة بيروت، وقد كان لذلك المقهى دور في نشوء معظم الحركات النضالية في ذلك الوقت".
( خليل الصغير )
ولفت خليل إلى توقف العمل في موقع: بنت جبيل.كوم بسبب المشاغل الحياتية والعائلية وأشار إلى فاعلية موقع "بنت جبيل. أورغ"، وقال: "هذا دليل إضافي على ولع أشخاص آخرين من بنت جبيل بمدينتهم.. الكل لديه الشعور ذاته والوفاء لبنت جبيل".
وأضاف "مثلما هو الحال هنا في مدينة ديربورن، فإن أهالي بنت جبيل يلتفون حول بعضهم البعض كأنهم عائلة واحدة وكأبناء وطن واحد".
وحول تجربته الأميركية التي عمقتها خدمة الصغير في الجيش الأميركي لمدة أربع سنوات والتي وصفها بأنها "كانت تجربة غنية تعرفت من خلالها على تركيبة المجتمع الأميركي ومنظومته الاجتماعية واستطعت عبرها تمكين لغتي الإنكليزية"، قال: "لقد منحتنا هذه البلاد الأمان والاستقرار والقدرة على العيش الكريم ولكن الاغتراب لم يؤثر على أهالي بنت جبيل بل زادهم تمسكا وترابطا".
تجدر الاشارة الى أن موقع "بنت جبيل.أورغ" إكتسب أهمية كبيرة في فترة زمنية قياسية، وأصبح المصدر الأول في نقل الأخبار اللبنانية والعربية والمحلية المتنوعة لأبناء الجاليتين العربية واللبنانية وخصوصا أهالي بنت جبيل، لدرجة يمكن القول معها أن "بنت جبيل.أورغ" هو السباق في نقل أخبار مدينة بنت جبيل و الجنوب اللبناني الى الاغتراب.
وعن الموقع الإلكتروني تقول احدى المغتربات، و هي اميركية لبنانية مقيمة في مدينة ديربورن والتي تعود جذورها الى مدينة بنت جبيل الجنوبية: "إن "بنت جبيل.أورغ" أصبح العين الراصدة، التي نستعين ونتطلع من خلالها، نحن كمغتربين، على أوضاع وطننا الإجتماعية والإنسانية والثقافية والسياسية، خصوصا شؤون بلدتنا الحبيبة بنت جبيل".
وتضيف: "أنا كفتاة ولدت وترعرت في مدينة بنت جبيل الطاهرة، يتوقني الحنين الدائم إليها. فيصبح متابعة أخبار مسقط رأسي جزءا من حياتي اليومية. كما إستطاع موقع "بنت جبيل.أورغ" أن يملأ بعض الفراغ الذي يولده شعور الغربة والحنين الى الوطن الأم".
(جانب من الحضور من ابناء بنت جبيل في حفل توقيع كتاب بنت جبيل..ذكريات مصورة في نادي بنت جبيل الثقافي الإجتماعي)