أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

رحلة مع الجنرال

الأربعاء 26 أيلول , 2012 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 1,925 زائر

رحلة مع الجنرال

 اتيح لي مرة التوجه الى القصر لحضور مؤتمر صحافي عقده عون، انا من «النداء» ويونس عودة من «صوت الشعب»، نحاول أن نحافظ على هدوء «وسط الاعداء». اتفقنا على ان نخاطبه بصفته جنرالا ولا نسميه «دولة الرئيس». كان صعبا التماسك طوال الوقت. رده على الاسئلة ركز على ما اعتبره رسائل ربما نحملها من «تحت». فكر أن مي كحالة، المستشارة الشاطرة التي كانت الى جانب الرئيس الهراوي، تتولى تحضير اسئلة هدفها ازعاجه او احراجه او ارباكه. وكان صعبا علينا نحن في ذلك العمر، ان نقنع «الجنرال» بأننا لسنا مجرد صحافيين، وأن هويتنا فيها عنصر آخر كوننا منتمين الى حزب سياسي منخرط في المعركة القائمة بين الجنرال والآخرين.

 

 لاحقا، كنت اتواصل مع يوسف الأندري لسؤاله عن بعض الاخبار. وفجأة حصلت محاولة الاغتيال. في مبنى «النداء» لم نكن نعرف من هو فرانسوا حلال. وعلى عادة الصحافيين، اتصلت بالاندري سائلا اياه عن صحة الجنرال وما الذي حصل، لكنه اجابني: هل تتصل للتأكد ان كانت جريمتكم قد نجحت؟

 

 دقائق وعلمنا ان فرانسوا عنصر من وحدة سرية في الحزب الشيوعي كلفت اغتيال عون. وحده الراحل سهيل عبود كان مصدوما بالخبر. باقي الرفاق انتشوا، ولكنهم كانوا قلقين بسبب فشل العملية. لم اكن اعرف يومها اين اقف. الالتزام الحديدي بما تقوم به قيادة الحزب يجعلني في صف حلال. وثقتي بالـ«المعلم» سهيل، تجعلني أقله، أحفظ له استنكاره وافكر فيه كلما عدنا الى الموضوع.

 مرت سنوات طويلة، قبل ان التقي عون مجددا في منزله بباريس. تحدث الرجل بثقة عن عودته الى لبنان كقائد وليس كلاجئ يطلب السماح. تحدث عن الوعاء المدني للتيار الذي سيقوده. وقال انه سيكون صوتا حتى للذين فقدوا الدور بعد تسوية الطائف الطائفية. لم يكن يخفي وجود مشكلة بسبب طغيان العنصر المسيحي على جمهوره. اما في بيروت، فكان هذا الكلام يعني هذيانا، وكان الجميع في السلطة وخارجها، يرفضون الاقرار بوجود حقيقي لهذا الرجل في البيئة المسيحية. وعندما انقلبت الاوضاع وتقررت عودته الى بيروت، انشغل الكل في التآمر عليه. من خصومه من السياسيين المسيحيين ــ وهم ليسوا بقلّة ــ الى فرنسا التي سعت كما اميركا والسعودية لمحاصرته. وعندما اجريت الانتخابات النيابية على حين غفلة، اظهر الرجل قوته، ومن يومها عاد عنوانا للاغتيال!

 اذكر له جيدا ردة فعله عندما خسرت لائحته في بعبدا بفعل دعم حزب الله للائحة المقابلة. قال لي عون: انا لست حاقدا على حزب الله، له حساباته التي افهمها، لكنني لا اتقبلها، غير أن الحزب سيدرك قريبا حجم الخطأ الذي ارتكبه.

 

 مرة جديدة، كنت اشعر بأن الرجل ليس من قماشة السياسيين التقليديين الذين تعودنا عليهم، اقطاعا قديما او جديدا او حزبيين يحلمون بمقاعد نيابية. وأنه يقدر ان يشكل ارضية تتيح لمن يرغب في تعزيز الجانب المدني من صورة الدولة ان يستفيد منها في حرب ضروس بوجه الطوائف والمذاهب وزعاماتها.

 

 تأخرت المقاومة بعض الوقت، لكنها ادركت ان عون يمثل اكثر من عنصر توازن في وجه تحالف 14 آذار. ومع ان اختبار حرب تموز فاجأ الغالبية، الا انني اذكر جيداً، تلك الرسالة القصيرة التي وصلت الى هواتف عونيين تقول: كما ترك الجنرال وحيدا في مواجهة العالم في 13 تشرين، ها هو حسن نصر الله يترك وحيدا في مواجهة العالم كله... كونوا معه!

 كان صعباً على أحد تقبل فكرة ان عون يقدر على صياغة موقف سياسي في عقل جمعي غير داعم لقضية المقاومة ضد إسرائيل. والذين روجوا لهذه الفكرة كانوا يقولون ان عون يسير «عكس التاريخ». كان هؤلاء يريدون القول لنا ان قسما من اللبنانيين قد حكموا بأنهم من انصار الاحتلال. وما فعله عون، هو افساد هذه الطبخة المسمومة. وهو، كما صمد الى جانب المقاومة قبل حرب تموز وبعدها، صمد في وجه محاولات بيع الدولة من جديد الى الفاسدين ابناءً بعد آباء وأجداد. وهو فعلا يسير «عكس التاريخ»!

 

 قبل أعوام، القى البطريرك الماروني السابق نصرالله صفير عظة وصف فيها موقع المسيح في «عظة الجبل»، بأنه «يسير بالمؤمنين عكس ما يسير به العالم عادة». وفي «عظة الجبل»، يخاطب المسيح الناس امامه بأن «لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ (…) سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً. فلا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ».

 ميشال عون... حماك الله!


Script executed in 0.18870496749878