غادرنا الطفل الذي يبلغ الثامنة والثمانين من عمره ولم تقارب الشيخوخة روحه، ولا أعجزت قدمه، ولا أسقطت عصا النشوة من يده، ولا هي منعته من أن يظل الفارس الذي تتجمع النساء حوله مأخوذة بزخم الرجولة في حركته، ويهرب الشباب والفتية من منازلته ولو بعد ساعات من انتصابه فارساً في الحلبة، ونقلاته المن موسيقى والتفاتاته التي تستدرج الصبايا فيتزاحمن عليه ليدللهن وهو يقودهن نحو النشوة وقد سحرهن بغمزاته من خلف شاربيه المعقودين كجناحي نسر..
تهاوى العمود السابع في بعلبك، القلعة الغارقة في تعاسة واقعها في قلب الإهمال الرسمي والهيمنة الوافدة، وغاب شيء من روح الفرح التي تعطي الفن قيمته الإنسانية باعتباره صادراً عن هذا الشعب، أهل هذه الأرض.
لم يكن هذا الفلاح البسيط الذي عاش بأرضه ولها، يدرك كم هو يضيف إلى الكنز الثقافي لشعبه قيمة تقديمه بعض فنه الشعبي الأصيل عبر اندفاعه ليمسك بالحاشية مقدماً «دبكة العرجة» وسائر تلاوينها، وفي يمناه خيزرانته التي تتمايل مكملة اللوحة التي تستدر «الآه» وتدفعك دفعاً إلى اقتحام الحلبة كالمسحور خلف «أبو يحيى».
فقدت بعلبك، ومعها الفن الشعبي الأصيل، واحداً من المبدعين البسطاء المجهولين، زكريا صلح، الذي ظل ينشر الفرح ثم انسحب بهدوء معتبراً أنه قد أتم واجبه، فرحل بغير وداع.