يستعيد اللبناني أغنية فيروز «بيت صغير بكندا» في مناسبات عدة: حين يخطف مقداديّ سوريّ، أو «يُدَوبِل» عليه «فان»، أو يتناول لقمة فاسدة، أو يعجز عن تأمين مسكن، أو يستمع إلى ميشال عون وسمير جعجع ويقرأ تغريدات سعد الحريري، أو يُتّهم بالأمركة أو الممانعة، إلخ. تقلّه الأغنية إلى ذلك البلد البعيد الذي يعيش تحت الصفر. تصير كندا هي «المفرّ»، أو الجنّة التي منحتها الأرض للمظلومين. جنّةٌ تُداس للحظات، بعد أن تُنتزع المواطنة بغير وجه حقّ.
لا جدال في حاجة اللبناني إلى جنسية إضافية ضامنة تقيه شرّ بلده. وبعد الدول الاسكندنافية، صارت كندا ملجأً للكثيرين، هي التي فتحت باب الهجرة إليها لحشد أرضها الجرداء. المصلحة مشتركة بين دولة تبحث عن شعب وشعب يبحث عن دولة. يريد الشعب العيش بطمأنينة أمنية ومعيشية. يحلم بأن يحلّ عنه «همّ» التعليم والطبابة والمسكن والشيخوخة، إلخ. يفكّر في مستقبل أبنائه وبأقساط جامعية مقبولة.
أسبابٌ دفعت بالكثيرين إلى تقديم طلبات هجرة إلى كندا، بنكهة لبنانية أساسها التذاكي على دولة العالم الأول. يوهم اللبناني مونتريال بأنه يقطن فيها ويعمل لدى شركاتها ويدفع الضرائب وإيجار الشقة وفاتورة الهاتف... الأمر سهل، يتكفل به الأصدقاء المقيمين هناك. ولا شك أن كندا ساعدت على إخراج عمليات الاحتيال هذه من خلال غياب ختم الخروج من الدولة، ومساعدة الأمن العام اللبناني من خلال منحهم ورقة «برّانية» تُؤكّد دخول اللبنانيين وخروجهم من دون الختم على جواز السفر. هكذا يغيب الدليل الحسّي على مغادرة اللبناني الأراضي الكندية. يبدو مستغرباً أن تكون كندا وأجهزتها الاستخبارية في غفلة عن هذه الأمور و«القطة تأكل عشاءها». لكنها اليوم اتخذت قرارها بمكافحة هذه الظاهرة، بعدما أعلن وزير الهجرة الكندي جايسون كيني «بدء عملية سحب الجنسية من آلاف المجنسين الذين يعتقد أنهم ادّعوا الإقامة في هذا البلد، فيما كانوا في الخارج». وقال: «حدّدنا ما يصل إلى 3100 مواطن كندي قد يكونون حصلوا على جنسياتهم عن طريق الغش، وسنبدأ إجراءات سحبها منهم»، موضحاً «نقوم بإجراءات لسحب الجنسية والإقامة الدائمة من الأشخاص الذين لا يلتزمون بالقوانين، الذين يكذبون أو يغشون ليصبحوا مواطنين كنديين».
ليس اللبنانيون وحدهم أبطال عمليات مماثلة، إذ لفت كيني إلى وجود «نحو 11 ألف شخص من 100 دولة متورطون في عملية الاحتيال تلك». يعرف الوزير الكثير من التفاصيل التي يتبادلها اللبنانيون في سهراتهم بفخر. كيف لا وقد خدعوا كندا. الوزير أوضح أن «الحكومة الكندية علمت أن الآلاف أقاموا معظم تلك الفترة خارج البلاد، واستعانوا بوسطاء دفعوا لهم في بعض الأحيان ما يصل إلى 25 ألف دولار لإيهام السلطات بأنهم في كندا».
كُشِفت القصّة. عدد لا بأس به من اللبنانيين في ورطة اليوم. يخشون على جنى عمرهم. فالجنسية تُعادل الذهب والماس. لكن كندا اتخذت قرارها اليوم وبدأت التنفيذ. لا مجال للمساومة بعد الآن، «فالجنسية الكندية ليست للبيع»، كما تقول المستشارة الاعلامية في مديرية الجنسية والهجرة ــ كندا نانسي كارون لـ «الأخبار». تؤكد أن «الحكومة الكندية بدأت بخطوات سحب الجنسية من أولئك الذين حصلوا عليها عن طريق الاحتيال، وشوّهوا إقامتهم من خلال العيش في الخارج معظم أو كل الوقت». ولفتت إلى أن «كيني أعلن العام الماضي أن مديرية الجنسية والهجرة ــ كندا (CIC) بدأت سحب الجنسية من 1800 مواطن حصلوا عليها عن طريق الاحتيال، وقد وصل العدد اليوم إلى 3100».
كارون شرحت أن «مديرية الهجرة بدأت باستخدام التكنولوجيا لإدارة الملفات (نظام إدارة الملفات العالمي) عام 2004»، موضحة أن «هذا النظام يساعدنا على كشف النشاطات المشبوهة والاحتيال من خلال تحديد الأمور المشتركة في الطلبات التي يمكن أن تشير إلى وجود احتيال». وتشمل عملية سحب الجنسية المنضوين تحت «التمثيل الكاذب أو الاحتيال أو إخفاء الظروف المادية عمداً في طلب الحصول على الجنسية أو الإقامة الدائمة».
غريبٌ أن تكون دولة بحجم كندا عاجزة عن كشف خداع يقوم به أفراد. ألا تتابع أجهزتها الاستخبارية تنقلات مواطنيها؟ هل تعمل شركات الطيران بمعزل عنها؟ تصرّ كارون على أن «التحقيقات على نطاق واسع لم تبدأ إلا في السنوات القليلة الماضية، ولم نتمكن من الحصول على الأدلة المطلوبة إلا أخيراً».
لا يتوقف الأمر عند سحب الجنسية من المخالف، إذ تحال قضيته، بحسب كارون، على وكالة الخدمات الكندية الحدودية (CBSA) لبتّ إمكان اتخاذ تدابير إضافية ضد الشخص أو ممثلّه، إذا تطلّب الأمر ذلك. وتلفت إلى سحب الاقامة الدائمة أيضاً من المخلّين، وصولاً إلى الطرد من كندا مع توجيه اتهامات جنائية بحق الفرد أو الممثل. وتشرح أنه «ما من مدة زمنية للتحقيق في هذا النوع من الاحتيال»، مؤكدة «أننا نعتزم سحب الجنسية من كل مخالف».
قدرة اللبناني على المراوغة قد تجعله المتهم الوحيد في أذهان الكثيرين. إلا أن كارون تؤكد أن الاحتيال للحصول على الجنسية «مشكلة عالمية، والحالات التي حددناها تنتمي إلى 100 دولة، يعيش معظمهم خارج كندا». وتضيف إنه «يشتبه في ضلوع حوالى 11 ألف (ينتمون إلى مئة بلد) في الكذب خلال التقدم للحصول على الجنسية أو الإقامة الدائمة، وقد جرى إصدار 530 علماً ببدء عملية سحب الجنسية». وتوضح أن «هناك شكوك تصيب نحو 5000 مقيم دائم متورط في التزوير أحيلت ملفاتهم على مزيد من التدقيق »، لافتة إلى «وجود شكوك تصيب ملفات 2500 شخص، ما يستدعي مراقبتهم بدقة».
كذلك، أصدرت CIC ، بحسب كارون، أوامر «بسحب الاقامة الدائمة من 600 شخص، وألغوا نحو 500 طلب للحصول على الجنسية بسبب عدم التزامهم بشروط الإقامة الدائمة. وحتى الآن، تراجع نحو 1800 شخص من أصل 5000 من المقيمين الدائمين المشكوك في أمرهم عن طلب الحصول على الجنسية بسبب الإجراءات الجديدة».
ينصبّ تركيز CIC اليوم على الكشف المبكر، تشرح كارون أن المديرية «أعدت أخيراً نموذجاً جديداً للأسئلة يفرض على بعض المشكوك في أمرهم». وتلفت إلى أن «هذا النموذج هو جزء من الجهود التي تبذلها الإدارة لمعالجة الاحتيال».
اللافت أن الولايات المتحدة وكندا تعملان معاً على إنشاء نظام معلوماتي للدخول والخروج، ما قد يجعل الاحتيال صعباً، ويعطّل قدرة الدول الأخرى على مساعدة مواطنيها، فتصدرّهم إلى الخارج لأنها تدرك عجزها عن حمايتهم. ويرى المحامي المتخصص في قضايا الهجرة ستيفان هاندفيلدو أن الحكومة الكندية الحالية تتشدّد في ملف الهجرة، وتتّبع إجراءات تندرج في سياق سياسات حزب المحافظين لجعل الهجرة إلى كندا أكثر صعوبة. يشار إلى أن قانون الجنسية الكندي يلزم المهاجر بالإقامة ثلاث سنوات متواصلة على الأقل على الأراضي الكندية تمهيدا لطلب الحصول على الجنسية الكندية.
التزام بالقوانين
يتخوّف عدد من اللبنانيين من الإجراءات الجدية، فيما يؤكد آخرون استعدادهم للالتزام بالقوانين. ندى مثلاً، قررت الانتقال إلى كندا والعيش هناك للحصول على الجنسية. تلفت إلى أن الامر كلّفها حتى الآن، بين إقامة هناك وتذاكر طائرة وتسديد فواتير وهمية حوالى 20 ألف دولار. هي ليست خائفة كثيراً من «امتحان» الجنسية، وإن تحسّبت لبعض العراقيل، كطلب تقارير المدرسة أو فواتير الأطباء، كما حدث مع أصدقائها الذين منحتهم الدولة الكندية فرصة جديدة. تقول إن رغبتها في الحصول على الجنسية هي لتأمين أولادها في دولة راقية، إذ لن تبقى خائفة على مستقبلهم، ولن تخشى حرباً إسرائيلية أو أهلية، بما أن أطفالها الثلاثة كنديون بالولادة.
ندى مجرّد حالة من كثر يسعون وراء الجنسية الكندية لا كندا. الأكيد أن اللبناني سيكون حذراً أكثر من أي وقت مضى، بعدما بات الحصول على الجنسية يتطلب الالتزام الكلي بالقوانين، وبالتالي العيش هناك. فما بدأته كندا لن ينتهي قبل تطهيرها من المخالفين.