لم يكن القصف الذي طاول قرية اكجاكالي التركية في نظر بعض الساسة اللبنانيين اقلّ حدّة من القصف الذي يطاول شمال لبنان، لكن الفرق يكمن في الاختلاف بين تعاطي تركيا مع القصف وتعاطي لبنان مع الاختراقات السورية.
فتركيا، دولة وجيشاً، موحّدة وراء سياسة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في مواجهة النظام السوري، فيما يتعاطى لبنان مع الازمة السورية على ثلاثة مستويات: الاول الذي تعتمده الحكومة عبر سياسة النأي بالنفس، والثاني تشكيل جبهة لبنانية موالية للمعارضة السورية شكلاً ومضموناً، في السياسة والدعم المالي والمعنوي والاعلامي. اما الثالث فطبقة المدافعين عن النظام السوري، إما لمصالح لا تزال من مخلّفات زمن الوصاية السورية أو لأسباب اقليمية ومتطلبات السياسة الايرانية.
الحادث الحدودي التركي السوري، وإجازة البرلمان التركي لحكومة رجب طيب أردوغان شنّ عمليات داخل الأراضي السورية، لا يتعلق بسوريا فحسب، بل يشمل أيضاً احتمالات استهداف حزب العمال الكردستاني في الدول المجاورة. ويطرح بجدية المخاوف من حرب يمكن ان تشنها تركيا على الجانب السوري، ما يستتبع اقامة منطقة عازلة وفرض حظر جوي، الأمر الذي كان، ولا يزال، ينذر بتطور الوضع على الحدود اللبنانية، في محاولة لإمساك زمام الأمور على الجبهتين الشمالية والجنوبية لسوريا.
والواقع الذي يفرض نفسه بنحو حادّ على لبنان يتركز في منطقة البقاع الشمالي اكثر منه لجهة شمال لبنان، نظراً إلى أن المناطق السورية المحاذية لشمال لبنان ــــ ما خلا تلكلخ ــــ لا تزال في معظمها تحت سيطرة الجيش السوري في محافظة طرطوس. والمناطق الأكثر تعرضاً لاحتمالات التوتر تنحصر في تلك الواقعة شمال شرق لبنان، حيث يتمدد عناصر «الجيش السوري الحر» بدعم من الداخل اللبناني، باعتراف كل الأطراف المعنيين.
في 22 أيلول الماضي، أعلن الجيش اللبناني أن مجموعة من «الجيش السوري الحر» دخلت لبنان للمرة الثانية خلال اسبوع واحد واشتبكت مع دورية للجيش اللبناني طاردت المسلحين. في المرة الأولى اشتبك «الجيش الحر» مع دورية من مركز الشاحوط على بعد نحو 700 متر من المركز، داخل الحدود اللبنانية. وليلاً هاجم مسلحو «الجيش الحر» مركز الشاحوط وطوّقوه، ودارت اشتباكات انسحبوا على أثرها. مركز الشاحوط موقع متقدم يبعد اقل من كيلومتر واحد من الحدود المشتركة ويضم نحو عشرة عسكريين. ولأن الموقع يبعد ما لا يقل عن ساعة عن قيادة فوج الحدود البرية الثاني، لم يعد ممكناً تأمين ظروف عمل عناصر الموقع، فسحبتهم قيادة الفوج.
في المرة الثانية اوقف الجيش اللبناني شاحنة تقلّ مسلحين سوريين ولبنانيين بعمق 5 كيلومترات داخل الحدود اللبنانية. لكن عناصر لبنانية من عرسال طوّقت دورية الجيش وتمكنت من تحرير المسلحين السوريين.
والمشكلة الحدودية لا تزال قائمة وتشكل عنصراً جاذباً لكل التقارير الغربية المعنية بشؤون الأمن وتداعيات التطورات السورية على لبنان؛ إذ إن جرود عرسال تشكل نقطة اساسية مشرفة على سوريا ولبنان، ومن يتحكم بها «سورياً» يتمكن من إحراز تقدم عسكري على خصمه. وهنا حساسية الموقف اللبناني.
بحسب رئيس الجمهورية من الارجنتين، فقد كلف الجيش اللبناني «توقيف اي شخص يحمل السلاح على الاراضي اللبنانية ويهدف إلى محاربة سوريا». لكن للقضاء اللبناني وجهة نظر اخرى في الموضوع، جعلت من الممكن توقيف حاملي السلاح ومن ثم اطلاقهم.
وتقدر جهات رسمية لبنانية عدد اللاجئين السوريين في لبنان بأكثر من مئة الف، وعدد المدربين منهم في خدمة العلم والعسكريين بأكثر من ربع هؤلاء. وتالياً، إن احتمالات تورط هؤلاء في تحضير جبهة خلفية لـ«الجيش الحر» تبدو مرتفعة بحكم الأمر الواقع، وبحكم انفلات الشارع اللبناني على بيع السلاح والاتجار به، والأهم بحكم دعم سياسي يلقاه هؤلاء من بعض الأفرقاء اللبنانيين.
لذا، إن أي تطور إقليمي يفتح الباب امام وضع هؤلاء في لبنان، الذين ينتمون بطبيعة الحال إلى المعارضة السورية واحتمال تحولهم عنصراً عسكرياً حاسماً في أي انفلات على الحدود بين لبنان وسوريا. وهذا الملف كان احد العناصر الاساسية في النقاشات التي دارت في عدد من المحافل الدولية مع اكثر من مسؤول لبناني. كيف يمكن ان يتعاطى لبنان مع «الجيش الحر» الذي تعترف به هذه الدول، والذي انتقلت قيادته إلى سوريا لمزيد من التنسيق وجمع صفوف كافة الاجنحة العسكرية تحت رايته.
احد الاسئلة التي طرحها مسؤول اوروبي من الصف الاول على مسؤول لبناني: إلى أي حد يمكن الجيش الحر ان يربح المعركة اذا زودته الدول الغربية المعنية بالسلاح، وهي التي اكتفت حتى الآن بالمناظير وبأجهزة الاتصالات؟ كان جواب المسؤول اللبناني: «انتم تزودونه بالسلاح وروسيا والصين تزود النظام أيضاً بالسلاح، والمعركة ستطول على هذا المنوال».
هاجس الأوروبيين والأميركيين، في اللقاءات الخاصة، وضعية «الجيش السوري الحر» وإمكان دعم لبنان لهم وتسهيل مهمتهم اذا اقتضت الحاجة، في حين أن الاحاديث الديبلوماسية العامة والاعلامية لا تزال تركز على دعم الحاجات الاجتماعية والإنسانية للاجئين السوريين.
لكن لبنان بين هذين الحدين مضطر، عاجلاً أو آجلاً، لمواجهة هذا الاستحقاق. فقبل اشهر من الآن، طرحت على الاوساط المعنية جملة اسئلة ومخاوف بشأن كيفية تعامل لبنان مع احتمال سيطرة المعارضة السورية على معبر المصنع من الجهة السورية. لكن السؤال بقي من دون أجوبة رسمية حاسمة، إلى ان جاءت التطورات العسكرية في جرود عرسال في ايلول الفائت لتعيد التذكير بأن ثمة استحقاقات داهمة تتعدى إطار النأي بالنفس، ولا سيما أن رئيس بلدية عرسال علي الحجيري أكد أن الحدود تحت سيطرته، من حمص إلى الزبداني.
وفي هذا المجال ثمة عناصر استجدت تفتح المجال للأسئلة ومحاولة المعنيين، من سياسيين وامنيين، ايجاد اجوبة لها، وسط تخبّط واضح في كيفية مقاربة الحكومة لهذا الملف:
أولاً، يتحدث رئيس الجمهورية من الارجنتين عن عدم وجود تنظيمات مسلحة تعمل انطلاقاً من لبنان ضد سوريا، في حين ان الجيش اللبناني اعلن وجود خلية تعمل لتدريب عناصر سوريين وتسليحهم في البيرة. ورئيس الجمهورية يعلن في الوقت نفسه وجود خروق من «الجيش الحر» ومن الجيش النظامي على الحدود.
ثانياً، ينفي رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في حديث إلى الزميلة «الحياة» وجود أي اتصال بينه وبين سوريا «وان الاتصال يجري عبر مؤسسات، وخصوصاً الجيش اللبناني، ضمن لجنة الارتباط اللبنانية السورية»، ما يعني ان الحكومة نأت بنفسها عن الملف الأمني بين لبنان وسوريا ووضعته في امرة ضابط لجنة الارتباط. وبحسب المعلومات الأمنية، يقتصر الاتصال حالياً بين الجيشين اللبناني والسوري على ضابط الارتباط المكلف «حلحلة الأمور على الحدود لا اكثر ولا اقل»، مع العلم ان بين البلدين معاهدات امنية، ولدى البلدين سفيرين يفترض ان يتوليا تنسيق الامور المشتركة، وخصوصاً الأمنية فيها.
ثمة اعتراف ضمني من اهل البيت أن «الجيش واقع بين شاقوفين»، كما يقول المثل العامي، اي بين الكلام الاعلامي على دعم الجيش والطلب منه وقف المسلحين ومنع الخروق السورية، وبين الانكفاء التام عن دعمه وتصويب الاتهامات اليه. وكان آخر ما حصل في هذا الإطار تقرير تلفزيون «العربية» عن حادثة الكويخات، الذي لم يكن تقريراً إعلامياً فحسب، بحسب الأوساط المعنية، بل كان رسالة سياسية على مستوى عالٍ، من قناة عربية سعودية فضائية تلقّفها رئيس الحكومة حين ردّ في مجلس الوزراء على الحملة التي تستهدف الجيش.
من هنا تصبح الدائرة مقفلة. الجيش ينتظر أوامر الحكومة، والحكومة تكلف ضابط الارتباط التنسيق، والديبلوماسيون الغربيون يسألون كيف يمكن الاستفادة من دعم «الجيش الحر» عبر لبنان، في مقابل استفادة سوريا من لبنان لدعم جيشها. يقول أحد المسؤولين إن «عدم اعطاء الحكومة الاوامر للجيش هو نوع من غضّ النظر وتتمة لسياسة النأي بالنفس».
اليوم أصبح الجيش في لبنان وجهة نظر بين فريقي 8 و14 آذار، لكن القضية تتعدى الحسابات الخاصة على أبواب مرحلة استحقاقات دستورية وإقليمية مع اقتراب النار السورية من الحدود اللبنانية من دون تهيئة البيئة اللبنانية لمثل هذه التطورات.