بسرعة، طالت تداعيات الانقسام السياسي الحاد الطائرة «أيوب» التي تعرضت لوابل من «المضادات الارضية» لـ«قوى 14 آذار»، من دون ان يشفع لها الإنجاز النوعي الذي حققته، عبر التحليق لمسافات طويلة فوق مواقع إسرائيلية حساسة، برغم كل الألغام «التكنولوجية» المزروعة في أجواء فلسطين المحتلة وبحرها وبرها.
هكذا، لم يتردد البعض في تجويف هذه العملية من أي مضمون وطني يتصل ـ أقله ـ بالرد على الاستباحة الإسرائيلية الدائمة للأجواء اللبنانية، ناهيك بإفراغها من أي مضمون عروبي او إسلامي يتعلق بفلسطين التي «تواطأت» أجواؤها مع الطائرة المقاومة.. وحدها الاعتبارات المذهبية والمماحكات السياسية التقليدية طغت على حسابات فريق واسع من المعترضين في لبنان، علما بأن الفصائل الفلسطينية كانت من أوائل المرحبين بالعملية، وفي الطليعة حركة «حماس» التي ابتعدت مؤخرا عن سوريا وإيران.
أما «حزب الله»، فلم يُفاجَأ بالحملة التي شُنت عليه بعدما أدت «طائرة أيوب» مهمتها. كان الامر متوقعا بالنسبة إليه، لقناعته بأن هناك في البلد من يرفض أصل المقاومة ويعترض على كل خطوة تقوم بها، بمعزل عن طبيعتها ومكانها.
عند انطلاق العمليات في بدايات المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي، كان يوصف المقاومون بـ«المجانين» و«الحالمين» الذين يفتقرون الى الواقعية السياسية ويسبحون عكس تيار القرارات الدولية وفي طليعتها القرار 425. ولما تبين ان المقاومة قادرة بالفعل على تحقيق إنجازات ميدانية، انتقل التصويب عليها الى مستوى آخر، حيث راج في تلك المرحلة مصطلح «التوقيت الخاطئ» للعمليات. وحين حصل التحرير في العام 2000 خرجت اصوات تقول ان انسحاب الاحتلال تم بقرار طوعي إسرائيلي وليس تحت ضغط المقاومة. ومع نقطة التحول الكبرى في حرب تموز 2006، استكثر البعض على المقاومة إنجازها وتنكر له، علما بأن العدو نفسه اعترف بإخفاقاته، وشكل لجنة تحقيق للتدقيق في أسبابها.
بهذا المعنى، يتعامل الحزب مع الحملة على عملية «ايوب» انطلاقا من كونها مجرد تفصيل في مسار طويل من الانقسام الداخلي والعميق حول سبل مقاربة التحدي الاسرائيلي. وليس خافيا في هذا الاطار، ان هناك صراعا بين مدرستين في التفكير والسلوك، لكل منهما «تلامذتها»، ليس فقط على صعيد لبنان وإنما على صعيد المنطقة ككل. المدرسة الاولى، تعتمد منهاج المقاومة باعتباره الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق وتحرير الارض، والثانية، ترى ان القراءة في كتاب التسوية ومجلدات القرارات الدولية تمثل السبيل الافضل والاكثر واقعية.
وعلى الرغم من تسليم الحزب بأن هناك من يتمسك بأحكام مسبقة وجامدة بحق مبدأ المقاومة، مهما كانت الحجة المضادة مقنعة، إلا ان له طرحه المتكامل لتفسير «عملية أيوب» وتشريح أهدافها، وصولا الى تفكيك المنطق الذي يستخدمه خصومه لتبرير إطلاق النار السياسي على «طائرة أيوب»، منطلقا من الآتي:
ـ يشدد الحزب على ان «عملية أيوب» هي في مضمونها عملية دفاعية بامتياز، ولو اتخذت في الشكل طابعا هجوميا، ذلك انه من الطبيعي ان تحاول المقاومة، بكل التقنيات المتاحة، جمع ما أمكن من المعلومات والمعطيات حول مواقع العدو واستعداداته العسكرية تحسبا لكل الاحتمالات، لا سيما ان هذا العدو لا يمل من قرع طبول الحرب وتطوير اسلحته وإجراء المناورات الهجومية التي تحاكي حربا على لبنان، عدا عن ان تحليق طائراته فوق الاراضي اللبنانية يكاد يكون يوميا، فهل المطلوب من المقاومة ان تكتفي بإحصاء الخروق الاسرائيلية للسيادة وان تقف مكتوفة اليدين بانتظار ان تكتمل جهوزية إسرائيل للاعتداء، من دون ان تعد العدة في المقابل لتحسين مقتضيات الدفاع.
ـ يعتبر الحزب أن فرضية «توريط لبنان» لا تملك أي حيثية مقنعة، بل ان العكس هو الصحيح، إذ ان تطوير توازن الردع، كما حصل عبر الطائرة «ايوب»، إنما يساهم في تحسين شروط الحماية للبنان، وإبعاد شبح الحرب عنه، خصوصا ان الاسرائيليين يدركون جيدا ان المقاومة ما كانت لتميط اللثام عن هذه الطائرة وتضعها في الخدمة لو لم يكن بحوزتها ما هو أعظم وأخطر.
ـ يستغرب الحزب تبرع البعض بالقول ان «عملية أيوب» تشكل خرقا للقرار 1701 في حين ان طائرة الاستطلاع لم تحلق في طريقها نحو أجواء فلسطين المحتلة فوق منطقة عمل القوات الدولية، وحتى ان الناطق الرسمي باسم «اليونيفيل» أكد ان القوات الدولية تراقب المجال الجوي اللبناني في الجنوب بموجب القرار 1701، ولم ترصد أي نشاط في منطقة عملياتها.
ـ يرى الحزب انه لا يمكن اتهامه بنسف استراتيجية دفاعية لم يتم الاتفاق عليها بعد، وليس معلوما ان من شروط طاولة الحوار تجميد عمل المقاومة وتكبيل أنشطتها الى حين ولادة الاستراتيجية الدفاعية. وإذا كان يراد من المقاومة الا تفعل شيئا حتى انتهاء الحوار وظهور نتائجه، فمن الأولى ان يستخدم البعض صداقاته مع الاميركيين كي يضغطوا على إسرائيل لتوقف خروقها للسيادة اللبنانية ومناوراتها العسكرية، حتى اتضاح حصيلة الحوار.
على أي حال، وبمعزل عن السجال الداخلي حول «عملية أيوب»، يتصرف «حزب الله» على اساس ان هذه العملية مصممة لحسابات استراتيجية كبرى تتعلق بتطوير معادلة الردع وتفعيلها، بما يتجاوز التفاصيل اللبنانية المعتادة، وهناك في الحزب من يختصر المشهد بالقول ان الخيار في لبنان بات محصورا بين طائرة «أيوب» وما تمثله... و«طائرة المنتجعات» وما تمثله.