لم يطرأ منذ الجلسة الخامسة للجان النيابية المشتركة، الخميس، تطوّر إيجابي أو تعديل ذو أهمية على مواقف قوى 8 و14 آذار من جدول الأعمال، يفتح نافذة على مناقشة جدّية لمشروع قانون الانتخاب الذي أعدّته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. ولا يعدو اجتماعا اليوم سوى تأكيد المؤكد، في اللجان المشتركة كما في اللجنة الفرعية، ما دام تناقض المواقف يتحكّم في الفريقين: تتمسّك قوى 8 آذار بمشروع الحكومة وهو النسبية، وقوى 14 آذار باقتراح قانون الدوائر الصغرى الـ50.
وما لم يحرّك رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط المياه الراكدة، يبقى الجمود مطبقاً على مصير قانون الانتخاب، أياً تكن الصيغ المتداولة له. وحتى إشعار آخر، سيلزم جنبلاط الموقف الوسط بين الطرفين، ويُصرّ على ما يرفضانه في العلن على الأقل، وهو قانون 2008. وباستثنائه، بات هذا القانون مرذولاً من المراجع السياسية والدينية جميعاً.
وقد لا يصحّ في نهاية المطاف إلا صحيح جنبلاط: تعذّر تفاهم مجلس النواب على قانون جديد للانتخاب يؤول إلى إبقاء القانون الحالي على حاله، فتُجرى على أساسه انتخابات 2013.
وتشير المعطيات المحيطة بموقف جنبلاط إلى الآتي:
1 ـــ من دون أن ينضم إلى أي من قوى 8 أو 14 آذار، لن يكون في وسع أحدهما ضمان غالبية النصف +1 لإقرار مشروع القانون الذي يتمسّك به. يعرف جنبلاط مقدار ما يعرفون، وهو أن محاولة كل منهما استمالته إلى مشروعه يتوخّى الحصول على الأصوات الضامنة للأكثرية المطلقة في مجلس النواب للتصويت عليه، بعدما أصبح الفريقان أقليّتين تفصل بينهما أقلية ثالثة أصغر منهما يمثلها جنبلاط. بعد إقرار مشروع القانون لا يحتاج الطرفان إلى التحالف مع جنبلاط لتكوين الغالبية النيابية الجديدة المنبثقة من انتخابات 2013.
في تقدير قوى 8 آذار أن مشروع النسبية يمكّنها من الغالبية من دون التعويل على جنبلاط. وفي تقدير قوى 14 آذار أن مشروع الدوائر الصغرى يفضي بدوره إلى تمكينها من تلك الغالبية بلا التحالف معه. هكذا يريدان الرجل حتى إقرار قانون الانتخاب. بعد ذلك يخوض كل منهما معركته النيابية على طريقته.
بل يبدو واضحاً للزعيم الدرزي أن الطرفين يلتقيان ــ حيث لم يلتقيا مرة ــ على شلّ دوره والخروج من التوازن الذي يديره موقعه الوسطي، والتخلّص من تلاعبه بهما.
2 ـــ منذ انتخابات 2005 إلى اليوم، كان جنبلاط صانع الغالبية النيابية، لا الملتحق بها. لم تفز قوى 14 آذار مرتين بها في انتخابات 2005 و2009 لولا تحالفها معه، ولم تقلب قوى 8 آذار الأكثرية تلك رأساً على عقب عام 2011 بلا انتقال جنبلاط من موقع إلى آخر. لن يسع أي منهما بمفرده انتزاع أكثرية نيابية مقبلة.
3 ـــ يعي طرفا النزاع جدّية الترابط بين التطورات الإقليمية وانتخابات 2013، على نحو تعكسه تلك النتائج، فتكون صورة مطابقة له. في انتخابات 2005 تحت وطأة الخروج المذلّ للجيش السوري من لبنان، لم تتمكّن قوى 14 آذار من الحصول على غالبية نيابية ـــ وكان جنبلاط على رأسها ـــ من دون اتفاق رباعي مع حزب الله وحركة أمل آل إلى مقايضة تجاهل سلاح الحزب بإعطاء قوى 14 آذار الأكثرية النيابية. فدفع بهما الاتفاق الرباعي إلى تفاهم على تقاسم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عامذاك التي دخلها حزب الله، لأول مرة، بوزير من صفوفه.
كذلك انتخابات 2009 التي أعطت الغالبية السابقة أكثرية جديدة، ظلّت تحت سقف تفاهم سعودي ـــ سوري راح يتنامي ويُدير النزاع اللبناني ـــ اللبناني ويقوده في أكثر من وجهة تحفظ توازنه: سلاح حزب الله في مقابل ترجيح الكفة للفريق الآخر، فآل الأمر أيضاً إلى ترؤس الرئيس سعد الحريري حكومة الوحدة الوطنية.
وشأن 7 أيار أمني عام 2008 أطاح حكومة السنيورة، أطاح 12 كانون الثاني 2011 حكومة الحريري. كان جنبلاط في صلب الفريق الذي دفع الثمن عام 2008، وصار في ما بعد في صلب الفريق الذي انتزع الأكثرية بالقوة بعد ثلاث سنوات. كلا الحدثين ترجما موازين قوى إقليمية، كانت سوريا طرفاً رئيسياً ومباشراً فيها.
في كل من دروس انتخابات 2005 و2009، ثم أحداث 2011، كان تلاحق التطورات الإقليمية حافزاً لتثبيت توازن قوى في لبنان يتأثر بنتائجها. في المرتين كان الزعيم الدرزي في صلب المعادلة، وقادراً على التكيّف مع مقتضياتها العاصفة. طأطأ الرأس عام 2008، ثم أمسى رأس الحربة عام 2011. وتكمن العبرة هنا في أن أياً من قوى 8 و14 آذار لا يسعه الحكم بأكثرية نيابية متقلّبة هي، في نهاية المطاف، ثمرة توازن قوى إقليمي متقلّب بدوره.
بذلك لا يبدو جنبلاط، في الوقت الحاضر على الأقل، جاهزاً للانتقال من أقلية إلى أخرى، متمسّكاً بموقعه في الوسط. بل يعكس المؤشر الأكثر دلالة إلى هذا التريّث، إقلاله التدريجي في المواقف الحادة ضد نظام الرئيس بشّار الأسد، من دون أن يتراجع عن رغبته في التخلص منه.
لم تعد دينامية إسقاط الأسد بالسرعة التي كانت قد شهدتها قبل بضعة أشهر، وعبّر عنها تصاعد نبرة جنبلاط في مهاجمة النظام والدعوة إلى إطاحته، وحضّ الدروز السوريين تارة، والجيش السوري طوراً، والغرب في كل مرة على إنهائه. بدا الاعتقاد بأن سرعة سقوط الأسد تحتّم سرعة انتقال جنبلاط إلى قوى 14 آذار. بيد أن انكفاء واشنطن ثم أوروبا وإحباط بعض الدول العربية، بالتزامن مع تزايد العنف في سوريا واندفاع الأسد في محاولة تقليص رقعة السيطرة العسكرية للمعارضة المسلحة، أرغمت جنبلاط على الترّيث.
لا يزال ضد النظام من دون أن يتوقع تداعيه سريعاً. ومع قوى 14 آذار من دون أن يغالي في انتقاد حزب الله والانقلاب على سلاحه. الواقع أن جنبلاط هو مع نفسه، لا مع قوى 8 أو 14 آذار.
4 ـــ على غرار موقعه في حكومة ميقاتي، متخذاً الوسط بين وزراء 8 و14 آذار، كذلك حال جنبلاط في البرلمان الذي أصبح الآن بلا أكثرية نيابية. أضحت الغالبية التي تمسك بها قوى 8 آذار وهمية بسبب عجزها عن استخدامها لإقرار مشروعها لقانون الانتخاب، من دون أن تنتقل إلى الفريق الآخر.
ورغم بضعة اتصالات أجرتها قوى 14 آذار بالوزير وائل أبو فاعور، لم تقدّم لجنبلاط عرضاً تناقشه معه لدعم مشروع الدوائر الصغرى، على وفرة ما أشاعته من أنها ستنجح في استمالة جنبلاط إليها. على طرف نقيض منها، تقدّمت قوى 8 آذار بعرض رفضه الزعيم الدرزي. عرض عليه موفدا الثنائي الشيعي الوزير علي حسن خليل وحسين الخليل تأييد مشروع النسبية، وأعلنا تأييدهما حصوله على كل المقاعد النيابية لطائفته. بمَن يريد، وأين يريد، وكيفما يريد. لمّحا إلى استثناء مقعد واحد للنائب طلال أرسلان، وترك المقاعد الدرزية السبعة الأخرى له.
ردّ جنبلاط بالطريقة التي يعرفها فيه محاوروه: تجاهله ما قد يُسأل عنه في معرض رفضه الخوض فيه، والتحدّث في موضوع آخر مختلف تماماً.
ولعلّ ما يخبره في نفسه وفي طائفته، أن الأطراف جميعاً لا يعدّون على أصابعهم ويحسبون عندما يفاوضونه. وما يعرفه الآخرون أيضاً، أن أحداً لا يستطيع استثناء أقلية صغيرة تتلاعب الآن بأقليتين كبريين. ربما يفضي ذلك ـــ إذا استمر إخفاق المجلس في الاتفاق على مشروع قانون جديد للانتخاب ـــ إلى تأكيد المؤكد: لا يصحّ سوى ما يقرّره هذا الرجل.