أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

معـركة علـى السـرايا.. وحـرب علـى ميقاتـي

الإثنين 22 تشرين الأول , 2012 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 1,584 زائر

معـركة علـى السـرايا.. وحـرب علـى ميقاتـي

انهارت المتظاهرة عند اندلاع صوت الرصاص الذي جعل الراكضين صوب ساحة رياض الصلح، ينقلبون على اعقباهم ويهرولون في الاتجاه المعاكس ليختبئوا تحت سقف اللعازارية، أو أسفل الشجرة أمام الكنيسة المقابلة، اتقاء من رصاص يعلمون أنه إذا كان يطلق في الهواء فقد يعود ليسقط عليهم. 

بعيداً، كان الدخان الأبيض السميك للقنابل المسيلة للدموع يلّف محيط نصب رياض الصلح، وقد بات الآن يحمل مجموعة من أعلام «قوى 14 آذار»، إضافة إلى علم «الثورة السورية». هناك كانت تجري معركة عمادها عصي ترمى على القوى الأمنية فيردون عليها بزخات القنابل المسيلة للدموع. 

ما إن توقف الرصاص، حتى علت ضوضاء شبان بعيون حمراء متورمة من الدخان السام، راحوا يجرفون الهواء بأذرعهم صوب رياض الصلح، صارخين بهستيرية في الناس كي يعاودوا الهجوم. 

على أن الناس لم يعاودوا الهجوم. سحر الخطاب الناري الذي اطلقه الزميل نديم قطيش انتهى مفعوله مع سريان الخوف كالعدوى بين الناس من أن تتدهور الأمور إلى ما لا يريد أحد. 

انسحب معظم الذين قرروا الهجوم على السرايا الحكومية وقوفاً عند خاطر قطيش، والذي كانت حماسته الشديدة رمته أرضاً بعدما كان على رأس المتظاهرين متلقي غاز القوى الأمنية، الواقفة سداً عند أول الطريق الصاعدة صوب السرايا. 

هذه كانت الجولة الأخيرة من الرصاص والغاز. وقد أكدت لتوها أن وصول المتظاهرين إلى أول طلعة السرايا مستحيل. وأن على هؤلاء أن يلعبوا لعبة ثانية. بعدما كانوا تجاوزوها في الجولة الأولى من المعركة. تفكك الحشد الكبير بسرعة قياسية، ولم يبق إلا العشرات من الشبان اللبنانيين ومعهم بضعة سوريين. هؤلاء قرروا الإقلاع عن رمي العصي على قوى الأمنية من مغاوير وغيرهم، وأن يحولوا تظاهرتهم إلى «سلمية»، بلا أي خطر يذكر. 

حين هدأوا، تسنى للإعلام المحلي والأجنبي أن يجري مقابلات وللجميع أن يرتاح، وللنائب معين المرعبي أن يتجول بين الشبان ووسائل الإعلام ويفاوض ضباط الجيش والدرك ويجلس على فراش ويمضي وقتاً لطيفاً. 

في المقابل، ستطبق القوى الأمينة على ساحة رياض الصلح في طوق محكم يمكنها من أن تحصي على البقية الباقية من الغاضبين أنفاسهم. ولم يعد بوسع هؤلاء، والحال هذه، إلا ترداد الهتافات مطالبة برحيل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وتشتمه هو والأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله. 

أما الرئيس السوري بشار الأسد، فتكفل به الشبان السوريون، الذين ما غابوا عن النهار برمته. ولا أحد من اللبنانيين يضاهي هؤلاء الجدد تماماً على مشاهد «14 آذار» في هتافاتهم المنظمة والمغناة. وهم من موجة النزوح الكبيرة للشبان السوريين إلى لبنان، الذين خرجوا أخيراً من حذرهم وخجلهم الشديد من اللبنانيين، ورفعوا أصواتهم عالية، وانخرطوا في تفاصيل الصراعات الداخلية وشتائمها، وهي صراعات متداخلة أصلاً بين البلدين. 

حولهم، كان خليط اللبنانيين ممن يدفع بعضهم كره طائفي مشهور ومعلن، بينما يحفز البعض الآخر، شعور عميق بالغبن جراء مسلسل بلا نهاية من الاغتيالات.. أما الثالث فشاب، وما زال يحلم بلبنان ما آخر، وهو على الأرجح أول من ينهار إذ يسمع صوت رصاص يدوي في وسط البلد، في يوم تشييع اللواء وسام الحسن، الذي كان قد بدأ منذ صباح باكر... 

في ساحة الشهداء 

أغنيات رثاء الرئيس رفيق الحريري. الرايات. جامع محمد الأمين. الخيمة العملاقة للضريح. اللبنانيون بأشكالهم وألوانهم وأنواع نظاراتهم الشمسية، التي تبدأ بالأشرفية القريبة وتنتهي بآخر الشمال وآخر البقاع. أمواج المراهقين المغتبطين بأصواتهم وهتافاتهم الرعناء، وتنقلهم المتواصل من مكان إلى آخر كأنهم في رحلة مدرسية. الحزبيون الخمسينيون بملامحهم القاسية ومشياتهم العسكرية. الأطفال الذين لا يدرون لماذا هم الآن هنا. النسوة المسيسات تماماً، على عكس الصورة المنمطة عن النسوة. الكتائبيون والقواتيون والمستقبليون وغيرهم، ممن يصرون على إبراز الهوية الحزبية. الهتافات. بائعو الكعك والقهوة. عاشقو التظاهر للتظاهر، كأنه فن. حاملو العلم اللبناني من الأبرياء الوطنيين السذج في علوم السياسة.. ليس في الخليط من جديد، وهو ليس على أي حال، ذنب «قوى 14 آذار»، بل ذنب من عاد إلى اغتيال رموزهم بعد انقطاع لحق «اتفاق الدوحة». 

إذا كان هناك من جديد، فهو علم «الثورة السورية»، ورايات وعصبات «لا إله الا الله» السوداء، والشيخ أحمد الأسير الحسيني نجماً يهتف باسمه. إلى المشهد المعتاد أضيف التمثيل بصور الرئيس نجيب ميقاتي وتمزيقها والدوس عليها. ميقاتي كان، أمس، ثالث عدوين للجمهور الآتي في معظمه من الأطراف: الأول هو بشار الاسد، والثاني «حزب الله الإرهابي». وإذا كان العداء للأسد والحزب من باب تأكيد المؤكد، فإنها المرة الأولى التي يناصب فيها جمهور «المستقبل» كل هذا العداء لميقاتي، وصولاً إلى تحميله وزر دم الحسن. 

لكن استشهاد الضابط الكبير، الذي ترقى إلى رتبة بطل في عيون كثير من اللبنانيين حين قبض على ميشال سماحة، ومعه النظام السوري متلبسين بالعبوات، لم يحشد كما كان متوقعاً، في لحظة أرادتها «قوى 14 آذار» تأسيسية مرة ثانية. 

الآلاف، الآتي معظمهم من الشمال والبقاع، لم يقووا على ملء الثغرات الواسعة في المساحة الكبيرة المفتوحة لهم. 

لم يسمح الوقت لـ «تيار المستقبل» وحلفائه بالتحضر كما يجب. هو تشييع بأي حال وليس يوم ذكرى. لكن اليوم بين الناس يتوه بين حزن التشييع، وانفعال التظاهر، والغضب من جريمة الاغتيال، والرغبة العارمة والدائمة بالتعبير عن مشاعر الهويات والطوائف. 

لكنه، رغم ذلك، تشييع. وقبل ساعات من وصول الجثمانين إلى مرقديهما الأخيرين، لا شيء حقيقياً يحصل في الساحة، إلا الفرجة على المشاهد الحزينة التي كانت تنقل عبر شاشة عملاقة من مقر قيادة قوى الأمن الداخلي. المدير العام للأمن العام ينادي الراحل مرة بعد مرة، «عزيزي وسام»، والابن الكبير للحسن، يشد على يد شقيقه، ويقبله في رأسه، ويبكيان. 

وفي التشييع والمعركة بعده، لا شيء حقيقياً حصل إلا الاندثار المتجدد لوهم الأمان الذي عاشه اللبنانيون. انتهى الوقت المستقطع الذي سمح لهم بأن يرتاحوا في خلاله بضع سنوات. 

خطت بيروت خطوات واسعة إلى الخلف، مذ دوّى انفجار الأشرفية. كأنّه هزها من نوم خفيف فاستيقظت لتجد أن شيئاً لم يتغير وأنها ما زالت في حرب. 


Script executed in 0.20408606529236