منذ أحداث أيار 2008، بدا أن ميزان القوى العسكري في طرابلس انقلب نهائياً لصالح قوى 14 آذار الممثلة بتحالف إسلاميين ومجموعات تابعة لتيار المستقبل. استفاد التيار من تصاعد الخطاب الطائفي والمذهبي ليستقطب قوى إسلامية متشددة، شكّل معها تحالفاً يُعتدّ به. كما استفاد من غياب التنسيق، الأمني والسياسي، بين قوى 8 آذار بعد تلك الأحداث.
وحتى منتصف الصيف الماضي، خاض «التحالف» الجديد اثنتي عشرة جولة من الاشتباكات على محور باب التبانة ــــ جبل محسن، أكسبته المزيد من الخبرات. وهو ضمّ، الى جانب بقايا «الأفواج» المعروفة في المدينة، مجموعات من المندفعين والمرتزقة وإسلاميين وعناصر فلسطينيين، قبل أن تنضم إليه لاحقاً مجموعات من المعارضين السوريين أكسبته قوة لا يستهان بها.
وبعدما وجد هذا التحالف أن الوضع على الأرض يميل لمصلحته، بدأ بقضم نفوذ فريق 8 آذار في المدينة على مراحل، فكان إخراج آل الأسود من باب التبانة، وآل الموري من الزاهرية، والشيخ هاشم منقارة من الميناء.
وفي اليومين الماضيين، رُسِمت معالم خريطة جديدة للقوى في طرابلس، أسهم في إبرازها اغتيال رئيس فرع المعلومات اللواء وسام الحسن. ففور انتشار الخبر، نزلت إلى شوارع المدينة مجموعات مسلحة (بعضها ملثّم) بشكل لم تشهده المدينة منذ الحرب الأهلية، فجابت الشوارع وهي تطلق النار في الهواء، مطالبة أصحاب المحال التجارية بإغلاق أبوابهم بسرعة، وعملت على إحراق إطارات السيّارات في الشوارع والساحات العامة وسدّ منافذ طرابلس كلها، الأمر الذي شلّ المدينة نهائياً. كما هاجمت مركزي الحزب السوري القومي الاجتماعي والتوحيد الإسلامي. وتطور الأمر إلى اشتباك مسلّح دام لربع ساعة، قبل أن يتدخل الجيش. وقد أسفر الاشتباك عن سقوط أحد كوادر الحركة الشيخ عبد الرزاق الأسمر قتيلاً.
انفلات الوضع الأمني بهذه الخطورة أعاد مشهد 7 أيار 2008 مرة ثانية، لكن هذه المرة بالمقلوب. حينذاك، كان المطروح هو تسليم مكاتب المستقبل للجيش. أما خلال اليومين الماضيين، وبعد اجتماع أمني عاجل عقد في مكتب محافظ الشمال ناصيف قالوش، بحضور ممثلين عن القومي والتوحيد، تقرر وضع مكتبيهما في شارع الجميزات وأبي سمراء في عهدة الجيش اللبناني، في قرار جرى تنفيذه فوراً.
في ضوء هذا التطور اللافت، لم يبق فعلياً في طرابلس سوى منطقة جبل محسن خارج سيطرة «الجناح العسكري» لقوى 14 آذار في طرابلس، وهو تطور من شأنه أن يضع هذه المنطقة تحت ضغط أمني في المرحلة المقبلة، علماً بأن محاولات التعرّض لها يومي السبت والأحد الماضيين لم تنقطع، عبر رصاص القنص أو القذائف وغيرها، والتي أدت إلى جرح 4 أشخاص.
هذا التحوّل في الوضع على الأرض، لا ينذر فقط بتراجع أو غياب أي صوت سياسي آخر، والقضاء على التنوع والتعدد السياسي الذي لطالما اشتهرت به المدينة، بل لأن تصبح المدينة تدريجاً في عهدة فريق سياسي أحادي النظرة يمتد انتماؤه من تيار المستقبل إلى الإسلاميين والمعارضة السورية، وليس من جامع بين مكوّناته سوى العداء الذي يكنّه للفريق الآخر.