من المختارة، راقب رئيس «جبهة النضال الوطني» النائب وليد جنبلاط مشهد يوم الجمعة الدموي، ثم «مسلسل» الأحد الفوضوي. لم يتردّد لحظة في تحديد إحداثيات موقفه: لا للفراغ. أبلغه لمن سأله عن خياراته بعد «غزوة السرايا»، وحتى قبلها. ردّده مرة واثتين وثلاثاً، علّ من يشكّك، يحظى باليقين.
وكما خطّ بيديه وثيقة ولادة حكومة نجيب ميقاتي، كتب لها عمراً جديداً. رسم معادلة الخطّين المتوازيين: لا للاستقالة، ولا لبديل غير توافقي. يدرك «البيك» أنّ الأولى أسهل من الثانية، ويعرف أنّ شروط قيام حكومة محمية بغطاء التوافق المحلي والإقليمي، شبه معدومة في الوقت الراهن، لكنه ترك لها فسحة من الأمل.
إنّه الموقع الأحب إلى قلبه. مركز الجاذبية. بـ«شحطة قلم» يعيد نجيب ميقاتي الى نادي رؤساء الحكومات السابقين، وبالقلم نفسه، يخرج سعد الحريري من ذلك النادي السياسي المملّ ويعيده الى «السرايا».
على الأرجح أن وليد جنبلاط قرر أن يترك القلم في جيبه. يدرك أنّ المعادلة اللبنانية صارت أصعب من مجرد تداول طبيعي للسلطة بين قطب سنيّ وآخر. الأصح أنهما يمثلان خطّين من النار يصعب إطفاؤهما إذا ما اشتعلا، وسيكون نصيب من يقف بينهما أن يحترق ويحترق البلد كله، ولهذا، ولغير ذلك من الأسباب، لا بديل عن الاستقرار راهناً.
أحزن خبر اغتيال وسام الحسن، وليد جنبلاط. الأصح أنه زاد منسوب مخاوفه. هو يرفض مقولة أن طائفة مستهدفة سواء جاء ذلك على لسان ميقاتي أو الحريري. الدولة، بنظر «وليد بيك» هي المستهدفة، وليس هذا الفريق السياسي أو ذاك. هذا الكلام أبلغه إلى «صديقه» سعد الحريري في الاتصال الهاتفي الذي جمعهما، منذ يومين. رئيس «تيار المستقبل» اشتكى مما تتعرّض له طائفته، المستهدفة برجالها ورموزها من رفيق الحريري الى وسام الحسن، وقال لجنبلاط «الوضع لم يعد يحتمل، ولا بدّ من إجراء ما، أقله استقالة الحكومة للإتيان بحكومة أخرى».
المطلب ليس بجديد، لكن الظروف المستجدة، لم تعط لرئيس «جبهة النضال الوطني» المبررات الكافية للسير بالخيار الانقلابي. لا بدّ من مظلة داخلية تؤمن ولادة حكومة بديلة، لأن الفراغ ممنوع كما الفوضى. في تلك الليلة، أودع «البيك» في اذن «الشيخ سعد» كلاماً واضحاً وصريحاً: إذا لم تؤمّن موافقة رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس مجلس النواب نبيه بري على قيام حكومة بديلة، فلا حاجة للبحث في التفاصيل.
الحريري يريد «رأس» الحكومة حيّة أو ميّتة. لا يهمّ الإطلاع على الصفحة التي ستلي إسقاطها، لأن المطلوب التخلّص منها بأي ثمن، ومن بعدها لكل حادث حديث. لكنه لم يعتقد أنّ سيد المختارة لا يحسب الأمور بالطريقة ذاتها.
وما زاد من «التصلّب الجنبلاطي» هو تقاطع هذه الرؤية مع «الفيتامينات» التي ضخّتها العواصم الغربية في عروق الحكومة الميقاتية، مع العلم أنّ رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» عاد ووضع الرؤية نفسها، في جعبة الديبلوماسيين الذين زاروه في المختارة في اليومين الماضيين، لاستقراء الوضع ما بعد الاغتيال.
مشهد المقاطعة للمؤسسات الدستورية والسياسية، وتحديداً للعمل النيابي وطاولة الحوار، لا يروق كثيراً للاشتراكيين. لا بديل بنظرهم عن الحوار، ورفع السواتر الترابية، يزيد الطين بلّة. إذ لا بدّ من إحداث كوّة في جدار الأزمة، من خلال ترك متنفّس حواريّ علّه يسهم في إيجاد حلّ للنزاع القائم. أما أسلوب المقاطعة، فهو مرفوض، وفق الجنبلاطيين، كما كان مرفوضاً يوم أغلقت «قوى 8 آذار» أبواب المجلس النيابي في العام 2006. وكما رفض «الحزب التقدمي الاشتراكي» مبدأ اقتحام السرايا من جانب المعتصمين في ساحة رياض الصلح في تلك المرحلة، فهو اليوم يرفض هذا الأداء أيضاً.
ولهذا يصرّ «الاشتراكيون» على عدم إقفال الباب أمام احتمال التغيير الحكومي، شرط تحصينه بالتوافق الداخلي والضمانات العربية والدولية. أما خارج هذه المعادلة، فلا سبيل لأي مخرج آخر.
فالحكومة «ليست منزلة»، وفق منظور وليد جنبلاط، ولكن طالما أنّ البديل غير مؤمن، ولا يحظى بحصانة الداخل، كما بعباءة الخارج، فإنّ الخطر سيداهمنا.