كعادته، اختار «البيك» أن يكون نجماً تلفزيونياً، يقطع الأنفاس، لحظة جلوسه على «كرسيّ الاعتراف». هذه المرّة، قال ما عنده، بأسلوبه الاستثنائي، ليثبّت بيديه، موقع قدميه: ما يبعدني عن شركائي في الحكومة، لن يقرّبني من حلفائي القدامى. وتقاطعاتي مع الجالسين قبالتي على طاولة نجيب ميقاتي، لا يفترض أن تكون عثرة على جسر التواصل «العنكبوتي» مع من سأصافحهم في الانتخابات النيابية المقبلة.
في تلك الليلة، هكذا رسمها وليد جنبلاط، وهكذا خطط للحلقة التلفزيونية. دوّن أمامه بعض الكلمات، أراد إيصالها بـ«البريد السريع» إلى المملكة العربية السعودية، حيث أودعها «تمنياته البسيطة جدا» بعدم توريط لبنان في المجهول.
القصّة بدأت من «لحظة الأشرفية». اعتقدها سعد الحريري الفرصة المنتظرة من عشرين شهراً، ليردّ «الصاع صاعين». لا بدّ من «ضربة» وليد جنبلاط القاضية، لإعادة نجيب ميقاتي إلى نادي رؤساء الحكومات السابقين. وبالفعل، أمسك «الشيخ المنفيّ» الهاتف وطلب صديقه في المختارة. لم يراوغ في تعابيره ولم يطل في مقدماته: أريد رأس الرجل الطرابلسيّ، والمهمة عليك. رئاسة الحكومة مسألة تخصّ الطائفة السنيّة، وهي التي تقرر فيها.
ومع مرور الثواني ثقيلة على مسمع «البيك»، راح المتصل يزركه في خانة الخيارات المحدودة: في هذا الظرف الدقيق، لا مكان للرمادي، إماّ أبيض وإمّا أسود. لا يمكن لك أن تحتمي خلف حصون الحياد السلبي، عليك أن تقرّر، إمّا تكون معنا أو ضدّنا. وبتعبير آخر، إمّا تصبح حليفنا في الانتخابات النيابية المقبلة، وإمّا خصمنا.
يدرك الشيخ سعد جيداً، من أين تؤكل الكتف الجنبلاطية. من خاصرتها الرخوة. والسرّ يكمن في الانتخابات ومصير زعامة المختارة. ولأنّ المفتاح لا يزال في قبضة المملكة السعودية، كان التلميح تارة، والبوح المباشر طوراً، بأن الممانعة الجنبلاطية ستترتب على صاحبها، مواقف ستُدفع من هذا الحساب السعودي بالذات.
لم يجد «البيك» في درج دفاعاته، ما يكبح جماح الغضب المتأتي من خلف الحدود. اكتفى بعرض صورة أشمل من تلك التي استعرضها «صديقه»، ومن زاوية أوسع: لا يجوز المجازفة بتعريض البلاد للفوضى، وجرّ الجيش إلى مستنقع الفراغ في القرار السياسي. المسألة تتخطى الطائفة السنية ورئاسة الحكومة، وهو الكلام الذي ردده مساء يوم الجمعة الماضي غازي العريضي باسم وليد جنبلاط في حضرة نبيه بري ونجيب ميقاتي في عين التينة.
بطبيعة الحال، لم يقتنع الحريري بالمقاربة التي طرحها سيّد المختارة. عاد مرّة ثانية، ليجرّب حظه في حشر «أبو تيمور» في «بيت الاستقالة». لكنّ الاتصال الثاني لم يكن أفضل حالا من سابقه.
في تلك الأثناء، كان «رسول العجلة» غازي العريضي يجالس رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة في دارته في شارع بلس في رأس بيروت. غير أن ما حرص «الشيخ» و«البيك» على محاذرة الوقوع في شركه، انزلق السنيورة ووزير الأشغال العامة، إلى فخّه. لقاء عاصف بين الرجلين لم يخل من لعبة التهديد والوعيد: العلاقة بالمملكة السعودية صارت رهن استقالتكم من الحكومة.
غادر غازي العريضي كل ديبلوماسيته المعهودة في حضرة السنيورة ومن شاركهما تلك الجلسة. قال كلاما حريصا على البلد، بمعزل عن حسابات «8 و14 آذار»، لكن هذا ما لم يكن بود السنيورة سماعه في تلك الأمسية الخريفية.
وصلت الرسالة إلى المختارة. فهم «وليد بيك» أنّ «الزرق» لا يمزحون، وأنّ «غزوة السرايا» حلم يراودهم، حتى لو نفضوا أيديهم منها. أدار «أبو تيمور» ظهره لكل عجقة الداخل، وشغل محركاته الخارجية، لاستقراء ما في طيات الخطوة الحريرية، من قطب مخفية، قد يكون لعواصم القرار الدولي، يد فيها.
استفهم جنبلاط من كثر أبرزهم «الصديق» جيف، أي جيفري فيلتمان، ماذا يملك من معطيات في أروقة المنظمة الدولية، فلم يجد في «قبعته» ما يبرّر «فعلة» أهل «بيت الوسط». ثمة كلمة سرّ واحدة هي لسان حال السفراء الغربيين كلهم: لا للفراغ، والباقي تفاصيل ثانوية.
هنا ثمة رواية أخرى لا بد من سردها على ذمة راويها: «خلال الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى الدوحة، قبل نحو أسبوعين، وتحديداً في 15 تشرين الأول الماضي، والتي رافقه فيها وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور، حاول الأخير جس نبض الدوحة، حول ما يمكن فعله على خط المختارة ـ الرياض، وقد فاته، أنّ حجم الاشتباك السعودي ـ القطري قد كبر وأن السؤال بحد ذاته كان كفيلا باستفزاز القيادة الملكية التي هالها أن يصبح لقطر حضور يتجاوز حجمها ودورها إلى الحد الذي باتت تقدم نفسها بوصفها دولة كبرى وراعية لتغيير الأنظمة.
ألقي القبض على جنبلاط «بالجرم المشهود»، وكان على سعد الحريري أن يعيد التذكير بما كان والده من قبله يفعله لجهة أنه يملك الحق الحصري بفتح وإقفال بعض القنوات بين المملكة وبيروت.
قرر الزعيم الدرزي توجيه رسالة عبر الأثير مباشرة، واحتسب أن تزيد «دائرة التباعد» بينه وبين المملكة، على قاعدة أولوية الحفاظ على استقرار البلد: لذا استعان ببعض الكلمات المدوّنة أمامه في المقابلة، كي لا يبالغ في ردّة فعله، ويزيد من تعقيدات العلاقة، العالقة أصلاً في عنق الزجاجة.
لم يتأخر الرد كثيراً. دقائق قليلة ويصل الجواب «تغريدة» على لسان «الحمام الزاجل» الالكتروني. لتنضم من بعده «جوقة زرقاء منظّمة» للرد على سيد المختارة، بعدما كتب «البيان رقم واحد». إذاً هي الحرب من جديد.
ارتبك «أبو تيمور» وتزاحمت التساؤلات في رأسه. هو مقتنع بما فعله، لكنه ما أراد للسيناريو الذي رسمه، أن يسلك هذه النهايات. كان المطلوب ترسيخ «الستاتيكو» القائم ليس أكثر. أصلاً ليس هناك من نيّة لدى دوائر القرار الدولي بتزكية أي تغيير على الطبق اللبناني، فلماذا المجازفة بتطيير الاستقرار الداخلي؟
كل المشاورات الخارجية بينت الجواب ذاته: الحكومة الجديدة مطلوبة ولا مانع من وجودها لكن شرط عدم الوقوع في مطب فراغ سيكون السوري هو المستفيد الأول منه.
غير أن أهل «بيت الوسط» لم يقبلوا التسليم بالصورة الجذرية التي يروّج لها زعيم الجبل. فالعقدة تكمن في مكان آخر. في لندن تحديداً. رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون متهم بأنه تربطه علاقة وطيدة بنجيب ميقاتي، وهو «المتهم الأساسي» بإقناع الفرنسيين (المشغولين بأزمتهم الاقتصادية)، والأميركيين (المنهمكين بانتخاباتهم الرئاسية)، بالوصفة الميقاتية، طالما أن البديل غير موجود، وطالما أنّ الفوضى هي البديل الوحيد.
ولهذا راحت شخصيات «قوى 14 آذار»، لا سيما تلك العابرة للحدود، تحرّض العواصم الغربية على «تصحيح» مسارها اللبناني، لرفع الغطاء عن «حكومة حزب الله»، مع العلم أنّ كل الاستفسارات التي حاول «الزرق» سحبها من أفواه السفراء، لم تخرج عن «الزيح» ذاته: لا للفراغ.. نعم لحكومة جديدة.
برغم ذلك، تعتقد «قوى 14 آذار»، أنّ الأمل لم ينعدم بعد: سيكون رئيس فرنسا فرنسوا هولاند ضيف الملك السعودي في أول تشرين الثاني. وقد يكون الملف اللبناني ثالث الرجلين على طاولة البحث. ويراهن الفريق اللبناني، على أنّ الرياض لن تتوانى، في «حربها المفتوحة»، عن فرض معادلة حسابية بسيطة على الزائر الفرنسي: «ارفع دعمك عن ميقاتي، تحصل على مبتغاك».
القاعدة نفسها ستسري على البريطانيين، عندما يستأنفون حوارا بدأ بينهم وبين السعوديين في نيسان الماضي في لندن، بشأن تطوير درع حماية صاروخي في الخليج وإطلاق أكبر مشروع تطوير للقوات البحرية السعودية يتضمن مشتريات عسكرية ضخمة من بريطانيا.
في غمرة هذه الرهانات، سطع نجم بيان وزارة الخارجية الأميركية المشجّع على «ترميم حكومي». تنفسّت القوى الآذارية الصعداء، واستعادت بعضاً من ثقتها المدمّرة على أعتاب السرايا: لقد نجحنا في ضغوطنا، وهذه هي حقيقة الموقف الأميركي، وما عدا ذلك، تشويه للواقع.
لكن المتحمّسين للتغيير تجاهلوا الثنائية التي اشترطها البيان الأميركي. التغيير ملازم للاستقرار. تجاهلوا أيضاً، أنّ الأميركيين منهمكون بانتخاباتهم ولبنان ليس على طاولة مراكز صنع القرار.
الساكن في المختارة، استجمع كل هذه المعطيات وفردها على طاولته. الصورة صارت شبه واضحة في مرآته: لا تموضع في السياسة. صحيح أنّ الانتخابات النيابية ستدقّ بابي قريباً، ولا قدرة لي على «طلاق» الأصوات الزرقاء في اقليم الخروب، ولا رغبة لي في استفزاز أبناء الطائفة السنيّة في البقاع الغربي وبيروت... ولكن لكل حادث حديث. ومن أقدر منّي على ابتكار صيغة توافقية، لا بد وأن يحين وقتها.
«حزب الله» المتفرّج عن بُعد على الاشتباك الحريري- الجنبلاطي، تحرّك باتجاه المختارة. جمّد كل تحفظاته وسارع لاحتضان «البيك». اتصال من الحاج وفيق صفا، كما من عين التينة، للمعايدة وللإشادة بمواقفه والشدّ على يديه.
حتى الأمس، كان رئيس «الاشتراكي» مكتفياً بما أدلى به عبر «كلام الناس»، ومتمسّكاً به. لا يرغب بأي تحليلات على ضفاف الحدث، أو بأي إضافات أو توصيفات، من شأنها أن تصب الزيت على النار، ملتزما بنصيحة ميشال سليمان التي تحدث للغاية نفسها مع الحريري.
حتى الأمس، كان جنبلاط يتمتع بخريف المختارة «الصيفيّ»، ويترقّب. بتقديره، لا يجوز تصنيف السجال مع «الفريق الأزرق» بالاشتباك. يقول لـ«السفير»: «انا لا أريد أن أشتبك مع أي فريق، لا «المستقبل» ولا غيره».
المعادلة واضحة بنظر جنبلاط: «أّمّنوا التوافق على حكومة جديدة، وأنا معكم».
أما عن رهان «14 آذار» على انقلاب ما في الموقف الأميركي، فكلمة واحدة يقولها جنبلاط لهؤلاء: «مصلحة لبنان هي العليا».