أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

الشويفات: دويلة لبنان الصغير

الأربعاء 31 تشرين الأول , 2012 07:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,898 زائر

الشويفات: دويلة لبنان الصغير

لم يبق من سهل الزيتون في الشويفات سوى ذاكرة. تلك الصورة وحدها بالأسود والأبيض في مكتب رئيس البلدية ملحم السوقي، لم يصلها الباطون بعد. الباطون قضم كل شيء في هذه المدينة التي تسكنها روحُ قرية. إذا سرت على طريقٍ ما في الشويفات، يلوّح لك الناس الذين لا يعرفونك مع ابتسامة «صباح الخير». وربما إذا مررت في أي وقت من تحت شرفة عادل أبو حسن في زاروبة مفرق دير قوبل، «لَحَلف» بشنباته الضخمة المقوّسة أن تشرب فنجان قهوة عنده. يطنّ صوت سائق الفان من على الزاوية قرب أفران بعلبك: كولا، رحاب، لوين يا طيّب؟ عادي، ستسمع هذا كل دقيقتين على الشرفة. قبل أكثر من ربع قرن، لم تكن تمرّ سيارة من الجنوب إلى بيروت على غير هذه الطريق. بُني أوتوستراد المطار، وبات الطريق القديم معلماً لقسمة لبنانية: فوق الطريق للدروز الذين يلفظون القاف «همزة»، وتحت الطريق للشيعة.

عادل يرى التحوّل في النفوس قبل الجماد، «من زمان، كانت النسوان دروز ومسيحيّي يلبسوا ذات المنديل، اليوم تغيرت الإيام، كل واحد على دينو الله يعينو... ويعيننا».

الشويفات أكبر من مدينة بيروت بكلمٍ واحد، ويسكنها أكثر من 650 ألف نسمة، بين كفرشيما وجسر الناعمة. يعتدّ «الشويفاتيون» بحاراتهم الثلاث: القبّة والإمارة والعمروسية، وبما يقع تحت نطاقها الجغرافي، بالإضافة إلى 50 مدرسة وأكثر من 150 معملاً، تتبع للشويفات: حي السلم، صحراء الشويفات، نصف دوحة بشامون، ثلاثة أرباع دوحة عرمون، والمطار حتى الأوزاعي.

يجلس «الريس ملحم» على رأس الطاولة المدوّرة، على يمينه المسؤول الإعلامي في البلدية جاد حيدر والعضو البلدي منير الريشاني، وخلفه خريطة كبيرة لـ«مملكته». الريس «بيجيبها عالقد»: «التعايش» صبغة البلدة، «شو بدك بتلاقي بالشويفات، دروز وشيعة وسنة ومسيحيي ومن الجبل ومن بيروت ومن بعلبك... شو بدك، في».

مذ عَلِمَ اللبنانيون بنهاية الحرب، بدأ الشويفاتيون كغيرهم بلملمة السنوات القاسية. بعضها «تلملم»، فعاد جزءٌ قليلٌ من المسيحيين المهجّرين، وبعضها جدّدته 7 أيار. هل انتهت الحرب؟ برأي رئيس البلدية الأسبق هيثم الجردي، أو «أبو الشهيد»، وهو أحد أكثر الاشتراكيين صيتاً وهيبة في قلعة الأرسلانية، أن «الحرب لم تنته، صمت صوت المدفع في هدنة غير معلنة، وبقيت النفوس معبّأة». تسلّم «أبو الشهيد» محور الشويفات ـــ كفرشيما فترة طويلة من الزمن. كان قائداً عسكريّاً، وهناك على تلّة «زكّا» قاتل القوات اللبنانية، ثم عاد نصف مدني بعد الطائف، إلى أن دفع ثمن دوره العسكري في 7 أيار دمار منزله. يجرؤ الرجل على قول ما يفكر فيه كثيرون هنا: نحن نتعايش معاً، لكننا لم نصبح مواطنين، «ماذا لو قرّر أحد ما أن يفضّ اتفاقنا؟». هاوي جمع السلاح فصّل خزائن في معظم مساحة صالونه لـ«كوليكشن» واسعة من البواريد. المجموعة الأخرى المميزة من مقتنيات «أبو الشهيد» هي بقايا قذائف أصابت منزله يوم 11 أيار 2008. احتفظ الرجل بصور الدّمار و«بَروَزها» ليراها كل زائر. «إذا طلب منا وليد بيك أن نقاتل نقاتل، أن نصالح نصالح، أنا حزبيّ وأنفذ كل ما يأمر به البيك، لأنه هو حامي الدروز ويعرف السياسة جيّداً»، إلى هذا الحدّ «أبو الشهيد» جنبلاطي.

تعجّ الشويفات بالسياسة، وقلّما تجد شويفاتيّاً لم يمرّ على حزبٍ أو تنظيم. قبل الحرب، كانت الشويفات منقسمة بين الحزب السوري القومي الاجتماعي والمير مجيد أرسلان والحزب التقدمي الاشتراكي والشيوعيين. اليوم، يمكن القول إن القوة الأكبر هي الاشتراكي، ثم الحزب الديموقراطي اللبناني، فالقومي. أمّا غالبية عائلات الشويفات الكبرى كالجردي وصعب والسوقي وحيدر والريشاني، فهي عائلات يزبكيّة في الأصل. حتى المسيحيون فيها، الموارنة منهم والروم الأرثوذكس ناصروا أرسلان، ابن البلدة. استعرت الحرب، فارتحلت الشويفات إلى فنزويلا وأميركا اللاتينية. ومع انقسام البلاد، أحكم الاشتراكيون السيطرة على الشويفات، واختفى الأرسلانيون وبقي القوميون، فـ«المير مجيد لم يقاتل، والعصب الطائفي وجد ضالّته عند جنبلاط»، يقول فرحان حيدر، الأعتق ذاكرة في عاصمة الأرسلانيين.

الشويفات مسيّسة إذاً، حتى إنها بخلاف معظم البلدات في عاليه، يشتدّ عصبها في الانتخابات النيابيّة أكثر من الانتخابات البلديّة. لكن البلديّة هنا تعني دولة كاملة. إذا أراد الرئيس أن يجول على نطاق سيطرته، لاحتاج إلى ساعات. «بيفكّرونا أغنياء، كنّا أغنياء قبل الحرب، كان المطار يدفعلنا، هلق منقبض من السوق الحرّة بس» يقول السوقي. البلدية تنفذ أعمال الصيانة في كلّ نطاقها، في حيّ السلم، تحتاج البنية التحتيّة «إلى نفضة، والبلديّة ما معها مصاري كفاية، الله يرضى على الوزير غازي العريضي، بس تقصّر البلديّة وزارة الأشغال بتلبّي». يبدو السوقي في تناغم عال مع الريشاني، الاشتراكي السابق ـــ الأرسلاني الحالي. فالبلدية الحالية من حصّة المير، استطاع انتزاعها بالتسوية من جنبلاط بعد 7 أيار لحاجة الأخير إلى التهدئة، واعترافاً منه بدور أرسلان. يقولون في الضيعة إن المير هو الآمر الناهي: يحضر جلسات المجلس البلدي، يوافق على القرارات، أو «لا تمشي»، فلا يفصل بين السرايا الأرسلانية في الإمارة والقصر البلدي في العمروسية سوى التسمية. للمير في البلدية الحالية 11 عضواً من أصل 18. والأرثوذكس الخمسة في المجلس البلدي من حصّة المير أيضاً. خسر المير الانتخابات السابقة في عام 2004، يومها نجح الاشتراكيون في ما سمّي معركة كسر العظم أو «برك الدّم»، وكانت النتيجة الحالية مقلوبة: 11 اشتراكياً و7 أرسلانيين، وترأس «أبو الشهيد» البلدية.

«كان أرثوذكس عاليه قبل الحرب بيضة القبّان في عاليه» يقول الأب الياس كرم. «أبونا الياس» حامل لواء عودة المسيحيين إلى الشويفات، هناك على «الضهور»، بنى كنيسة جديدة اسمها كنيسة المدبّر «برعاية المطران جورج خضر». لا يتوهّم «الأبونا» أن المسيحيين يقفون بالطابور ليعودوا إلى الضيعة، «شغلهن بالأشرفية وكسروان والمتن، والأكثرية مغتربة، عم يرجعوا الكبار بالعمر، بس لازم الناس ترجع». كرم، بقنبازه الأسود وابتسامته الذكية، يدرك تماماً خيوط اللعبة الدرزية: «نحن ورثنا الزعامة الأرسلانية عن أجدادنا، ولا نستطيع الخروج من عباءة المير»، ولا ينسى «الأبونا» ابنَ الشويفات وابن رعيّته نائب رئيس الحكومة سمير مقبل، «عم يساعدنا لنرجّع الناس».

في الحيّ «المسيحيّ»، قرب شجرة «بوملي» تفصل طاولة خشبية صغيرة ليندا عن أبو صنين، الماروني القومي الذي عاد وعائلته إلى الشويفات في عام 1994. لا يترك الرجل أحداً من شرّ تهكّمه، أو «شيئاً في بطنه». وعلى مسمع قريبه مروان «القواتي المثقّف»، «يزفّ» رئيس القوات سمير جعجع مع كلّ رشفة من كأس العرق. «مطرح ما بترزق إلزق» تقول ليندا عن عودة مسيحيي الشويفات، فالحرب بالنسبة إلى «الختيارة ـــ المشبشبة» انتهت على «زغل»، شو بدن يرجعوا يعملوا؟

«كلّن كذابين ولوفكجيي» هكذا يصنّف أبو صنين الطوائف، «السنّي بيحكي على الدرزي، والدرزي بيحكي على الشيعي والمسيحي، والشيعي بيحكي عالكل، وكلن بيكذبوا على بعض»، يضحك أبو صنين وهو يلتفت إلى مروان، «مبسوط بحالك إنك قوات؟». ومروان نفسه يضحك من قلبه، «الحمد الله، بالشويفات متعايشين مع بعض».

الطريق بين السرايا الأرسلانية وقصر المير في خلدة توصلك إلى ديوان أبو ذيب. في الديوان، يتحلّق أبناء العمّ من عرب خلدة. على وقع كركرة نرجيلة أبو ذيب، يخبرك أبو أمير منذر ضاهر، وهو عضو بلديّة الشويفات عن مقعد العرب، كيف «رَبَّح» العرب «أبو الشهيد» في انتخابات 2004. في صدر الديوان صورٌ لأبو ذيب مع الرئيس سعد الحريري. الشيخ سعد «حبيب قلبي» ويشير بإصبعه إلى صور الديوان الكثيرة. يتوقّف عند صورة النائب وليد جنبلاط، أبو ذيب جنبلاطي ـــ مستقبلي لم يحسم خياراته بعد، وحين يُسأل عن الأفضلية بين الزعامتين، يحيد بنظره ويطلب «نارة» لنرجيلته. وعلى الرغم من حيرته، يعي أبو ذيب ضرورة «المحافظة على الجيرة» مع الدروز، «نحن ما منزعّل لا المير ولا وليد بيك».

لم تنس الشويفات 7 أيار. الألم محفورٌ هنا تماماً كتمثال شهداء 11 أيار على طريق مركز الأمن العام قرب ساحة السرايا. قبل عامين، وقف جنبلاط في البلدة وطلب من الشويفاتيين مرّاتٍ عدّة ألا يلوموا حزب الله على ما حدث، «أنا حرّضت على المعركة، ولا تنسوا أننا من اتخذ قرارات 5 أيار». الندم الجنبلاطي لا ينفع. فالدم سال غزيراً بين حزب الله وأتباع الداعي عمّار. «أخرج وليد جنبلاط الغول المذهبي من القمقم، ولم يعرف كيف يعيده، على الرغم من المصالحة الشهيرة بين الضاحية والشويفات»، يقول فادي أبو فخر «أبو الليل»، أحد مسؤولي القومي في البلدة. وما يقوله أبو الليل أيضاً إن «وجود القوميين في حارة القبّة بهذه الكثافة شكّل صمام أمان دائماً، وخصوصاً في 7 أيار، نحن منعنا الفتنة المذهبيّة».

الدروز في الشويفات يشعرون بالغبن، «حزب الله هاجم الضيعة وقتل أبناءنا» يقول أحد الاشتراكيين. حتى أولئك الأرسلانيين الذين يدركون أن المعركة كانت سياسيّة وليست مذهبيّة لا يسوّقون فكرتهم بين أبناء ضيعتهم، «العصب الطائفي أقوى من صوت العقل. الناس هنا يقولون تحت الطريق عندما يريدون الحديث عن الشيعة، وفي حيّ السلم يقولون فوق الطريق حين الحديث عن الدروز... علماً بأن شيعة الشويفات يعيشون هنا منذ القدم، وما قيل عن نقل نفوس وبيع أراضٍ ليس حقيقيّاً»، والحديث لعادل أبو حسن. هذا ليس كل شيء، في بيوت الشويفات وزواريبها حديثٌ عن الخوف الجديد: «السّلفيون على مقربة منّا، هنا في الدوحتين».

هنا، لن يترك أحد بيته لا تحت الطريق ولا فوقها، فالشويفات «لبنان صغير». وحين يصمت المدفع، لا يكفي أن نلفّ «صبطانته» بقماشٍ عازلٍ للماء حتى لا يصيبه الصدأ، لنقول إن الحرب قد انتهت.

 

باب الحارة

 

النطاق البلدي الكبير للشويفات دفع بالبلدية إلى تفريغ أكثر من 180 عنصراً في الشرطة البلدية، يتولّون الحراسة في كلّ الحارات وعلى مداخل عرمون وبشامون وفي داخل حي السلم. تدرك البلدية أن الأمن لا يمكن إلا أن يكون بالتراضي، ولهذا تعقد اجتماعاً دورياً بالتنسيق مع استخبارات الجيش اللبناني لممثلين عن كلّ الأحزاب والقوى والتيارات السياسيّة في المنطقة. «بس يتعرّفوا المسؤولين على بعض، بتخفّ المشاكل شوي، يعني على قدر المستطاع» يقول رئيس البلدية ملحم. لكن للريس ملحم مآثره أيضاً، ومن العيار الثقيل. وضعت البلدية على مداخل الحارات عوازل حديديّة كبيرة، تغلقها الشرطة إذا ما عصف بالبلد توتّر أمني ما، تعيد أمجاد الإجراءات العثمانيّة في حارات دمشق وحلب وحاصبيّا قبل قرنين من الزمن. على من تغلق الحارات؟ لا أحد يعرف.


Script executed in 0.20546102523804