طوال الأيام التي سبقت يوم إحياء مراسم عاشوراء، كان الرئيس نبيه بري يضع يده على قلبه تحسّباً من حصول فاجعة أمنية، كأن تستهدف إحدى المسيرات العاشورائية بعملية تفجير. ومع حلول ظهر الأحد، انقشعت غيوم القلق، بعدما مرّ «العاشر» على خير.
عديدة الأسباب التي أثارت المخاوف من تعرض المواكب العاشورائية لعمل إرهابي، ومعظمها جدّي بنظر المستويات الأمنية والسياسية، في مقدمها الخشية من انتقال ظاهرة تفجير المسيرات العاشورائية، في العراق وباكستان، إلى لبنان.
وفي السياق، وردت معلومات عن اتخاذ مجموعات إرهابية قراراً بذلك، بما يخدم تعميم فكرة الفتنة المذهبية السنيّة _ الشيعية في المنطقة من باكستان إلى لبنان. وتؤكد المعلومات جدية هذا التوجه ليكون لبنان جزءاً من مشهد الاحتراب المذهبي. انطلاقاً من هذه المعلومات، يصف بري الوضع في لبنان بأنه خطر للغاية.
قصة عبوة النبطية
هذه المخاوف دفعت الأجهزة الأمنية، خلال أيام عاشوراء، إلى اتخاذ إجراءات أمنية مشددة حول أماكن المجالس العاشورائية. وقامت بمثل هذه الإجراءات الاستثنائية أيضاً الأطراف المنظمة للمراسم. لكن قبل أيام من حلول العاشر من محرم، لاحظ مناصرون لطرف سياسي أساسي في الجنوب حركة مثيرة للريبة حدثت في حي المسلخ في النبطية المشهورة بأنها تداوم منذ عقود على إقامة مسرح استشهاد الإمام الحسين. فقد توقفت سيارة، لا تزال مجهولة الهوية، بعد منتصف ليل أحد أيام الأسبوع الماضي، أمام منزل يقطنه خمسة سوريين في الحي المذكور، وأطفأ سائق السيارة مصابيحها، ونُقلت منها أغراض الى داخل المنزل، ثم غادرت السيارة المكان.
أبلغت استخبارات الجيش بما جرى، فدهمت المنزل المؤلف من غرفة واحدة، لتفتيشه. وعُثِر في المرحاض على عبوة موضوعة داخل قارورة بحجم قنينة «بيبسي» من القياس الكبير، وبداخلها مواد متفجرة، إضافة إلى صاعق تفجير كهربائي وأربع حشوات. أوقفت دورية الاستخبارات الشبان الخمسة، وباشرت عملية رفع البصمات، ونقل قارورة المتفجرات وأدواتها إلى مختبر وزارة الدفاع في اليرزة.
معلومات عن السوريين الخمسة
أظهر التدقيق في هوية السوريين الخمسة أنهم نازحون من منطقة الحسكة، وتربطهم صلة قرابة عائلية لصيقة، وتتراوح أعمارهم ما بين 17 و23 عاماً. وتشير المعلومات إلى أنهم قدموا إلى لبنان من سوريا على دفعتين؛ اثنان منهم قدما إلى النبطية، بداية، قبل حوالى أربعة أشهر، والثلاثة الباقون التحقوا بهما منذ حوالى خمسة أسابيع.
وأظهرت التحقيقات أنه لم يسبق لأي منهم أن دخل لبنان. ومنذ قدومهم، اتصف سلوكهم بالانعزال وعدم الاختلاط. وفيما مارس أحدهم مهنة كهرباء السيارات، فإن الأربعة الآخرين عملوا في مهنة الدهان.
أنكر المتهمون الخمسة، في التحقيق، أيّ صلة لهم بالعبوة التي وجدت في منزلهم، وأصرّوا على أن أحداً ما وضعها خلال غيابهم، وذلك لتوريطهم في هذه القضية. وتعذر على رافعي البصمات في الأجهزة الأمنية تحديد بصماتهم على القارورة. وقال المتهمون إنهم عادة ما يتركون مفتاح غرفتهم عند حافة النافذة الخارجية، ليتسنّى لأي منهم، في حال عودته بغياب الآخرين، دخول المنزل.
كتابات عبرية
لكن اللافت في العبوة أنها تشترك مع عبوات سابقة اكتشفها الأمن اللبناني، لجهة ثلاثة أمور: الأول وجود كتابات باللغة العبرية عليها. ثانياً، أن تركيب محتوياتها يشبه عبوات سبق اكتشافها وعليها أيضاً كتابات عبرية. الأمر الثالث، أن معظم هذا النوع من العبوات يخبّأ في مناطق يقطنها سنّة، ظناً من الفاعلين بأن هوية السكان المذهبية، خصوصاً في الجنوب المقطون بأغلبية شيعية، تمثل نوعاً من الملاذ الآمن. وتجدر الإشارة إلى أن حي المسلخ يقطنه سنّة، ما يوحي بأن الفاعلين اختاروه دون غيره من أحياء المدينة لتوهّمهم أنه يحقق الهدف نفسه.
وكان التحقيق في معظم هذه العبوات أظهر أنها معدة لاستعمالها من جانب مجموعات أصولية.
النازحون والحالة الأسيرية
وبإنكار السوريين الخمسة صلتهم بالعبوة، فإن السؤال عن الجهة التي وضعتها والهدف منها، لا يزال لغزاً حتى الآن. ولكن في الوقت نفسه، فإن هذه الحادثة أعادت تسليط الضوء على قضية النازحين السوريين في الجنوب، وذلك انطلاقاً من النقاط الآتية:
الأول، تعاظم النزوح السوري خلال الأشهر الأخيرة، وهو مرشح للتزايد خلال الفترة المقبلة. وبحسب معطيات المفوضية السامية التابعة للأمم المتحدة، فإن أعدادهم في منطقة صيدا وحدها فاق 12 ألفاً. أما في بقية مناطق الجنوب، فيصعب إحصاؤهم. وتلاحظ مصادر أمنية أن معظم النازحين معادون للنظام السوري، وأن بعضهم يقيم أحياناً تجمعات لمساندة المعارضة المسلحة في سوريا.
الثاني، هو اختلاط النزوح السوري الى الجنوب بنزوح فلسطينيي سوريا، خصوصاً من مخيم اليرموك. وتقول إحصاءات مكتب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، في رسالة سلمتها إلى الدولة اللبنانية، خلال الشهر الماضي، إن نسبة تسعين في المئة من نازحي اليرموك جاؤوا إلى لبنان، ومعظمهم إلى عين الحلوة، ومنه إلى مخميات أخرى في الجنوب.
الثالث، هو محاولة الشيخ أحمد الأسير الاستفادة من النازحين السوريين والفلسطينيين من سوريا. وكشفت مصادر لـ«الأخبار» أن هذه المحاولات لاقت رفضاً من القوى الفلسطينية في عين الحلوة، خصوصاً من القوى الأكثر تأثيراً عليه، كعصبة الأنصار والحركة الإسلامية المجاهدة. وبحسب هذه المعلومات، فإنه في اليوم ذاته الذي حصلت فيه حادثة التعمير، قصد كل من الشيخ جمال خطاب (قائد الحركة الإسلامية المجاهدة) وأبو شريف عقل (من عصبة الأنصار) الأسير وأبلغاه أن عليه تأجيل إعلان إنشاء ذراعه العسكرية، وأن البيئة الفلسطينية في صيدا لن تسانده في أي خطوة تصعيدية تؤدي الى تأجيج نار الفتنة المذهبية. وردّ الأسير بأن فكرته تهدف الى بناء ذراع عسكرية سنيّة لمقاتلة إسرائيل، فأصرّا عليه بضرورة تأجيل ذلك، لأن الأوضاع الراهنة في لبنان لا تتحملها.
وقبل ثلاثة أيام، زار خطاب وعقل الأسير في مقره في جامع بلال بن رباح، وتقدما إليه بثلاثة مطالب يحتّمها الوضع اللبناني المتشنّج مذهبياً؛ الأول، التخفيف من لهجته المذهبية العالية. الثاني المشاركة في تهدئة الأوضاع في الجنوب. الثالث، إصرارهم على تأجيل إعلان ذراعه العسكرية.