قاضي السير في لبنان أشبه ما يكون إلى هذه الشخصية المزدوجة. تارة يكون قاضياً مدنياً، إذا كان موضوع الدعوى تعويضاَ عن ضرر مادي بناء على المسؤولية المدنية المترتبة على فعل الجوامد، ثم يؤدّي دور القاضي الجزائي حتى من دون أن يغير ثوبه، في حال كانت المسؤولية جزائية ناجمة عن مخالفة قانون السير، أو التسبب بالقتل أو الإيذاء عن غير قصد.
لا محاكم مختصة بقضايا السير ومحددة بمرسوم في لبنان، إنما هناك توزيع أعمال بقرار من الرئيس الأول لمحاكم الاستئناف. وهذا يعني أن قضايا السير تشكل عبئاً يلقى على عاتق القضاة الذين تتراكم لديهم الملفات، ولذلك فان من يغوض فيها، سواء كان متضرراَ أم مدعى عليه، عليه أن يلتحق بركب «السلحفاة القضائية».
هذا ما حصل مع نهى خ. التي فُجعت بخسارة زوجها، محمد خ. وهو عنصر في قوى الأمن الداخلي، في 20 أيلول 2006، وفقدت قدرتها على المشي، بعدما اصطدمت شاحنة بقاطرة ضخمة محملة بالصخور على طريق الناعمة، فانقلبت الصخور على سيارة الضحيتين. وبعدما بيّن خبير السير في تقريره أن المسؤولية مشتركة بين الشاحنتين، أحيل الملف إلى القاضي المنفرد الجزائي في بعبدا. ما زالت نهى «تجرجر» آلامها إلى المحكمة منذ ست سنوات، بمعدل مرتين في السنة، ولم يصدر الحكم حتى اليوم، علماً أن سائق الشاحنة المدعى عليه انتقل إلى جوار ربه من دون أن يبرئ ذمته.
قاضي السير الذي يصفه البعض بأنه شريك في نزف الدماء «غير المقصود» على الطرق، يستنسخ في معظم الأحيان مواهب القضاء العدلي. فهو يتمرد على الضغوط حيناً ويهادنها أحياناً. وإلا فلماذا ما زال يتردد في «الهمس واللمز» عن حادث السير الذي وقع على طريق البيسارية، في 31 كانون الأول، وقد صدم فيه أحد القضاة سيارة مرسيدس بعدما انفجر دولاب مركبته، فانقلبت السيارة مرات عدة، فيما أصيب القاضي وابنه وزوجته جراء الحادث. تم توقيف سائق المرسيدس الذي لم يكن له في الحادث لا «ناقة ولا جمل»، وصدر الحكم البدائي سريعاً في 14 نيسان 2002 قاضياَ بحبسه شهراً وتدفيعه تعويضاً قدره 60 مليون ليرة. فاستأنف الحكم وصدر القرار في 30 كانون الثاني 2003 عن محكمة استئناف جزاء لبنان الجنوبي مخفضاً التعويض إلى 58 مليوناً. أما ما زاد الطين بلة فهو ادعاء صندوق تعاضد القضاة الذي طالب بتعويضه بدل الطبابة التي أمّنها للمصابين بمبلغ قدره 32 مليون ليرة، واستجاب القضاء لطلبه دون تلكؤ.
ويرى رئيس «نقابة مكاتب السوق في لبنان» حسين غندور أن أبرز مخالفة لقانون السير هي أن تنظيم محاضر ضبط المخالفات يتم بحق صاحب المركبة وليس بحق المخالف نفسه، كما ينص القانون صراحة ومبدأ شخصية العقوبة إذ «لا تزر وازرة وزر أخرى». فهذه المخالفة الفاضحة كرستها الرادارات التي بدلاً من أن تحقق العدالة بإلغائها العلاقة المباشرة بين قوى الأمن والمواطن، أثمرت نتيجة معاكسة، إذ إن عمل الرادار يجب أن يترافق مع حواجز دائمة للقوى الأمنية تعمل على توقيف السيارة المخالفة»، كما يقول.
ويوضح خبير السير المحلف محمود عاصي وجهاً آخر للمشكلة: «يجب على المخالف دفع الغرامة خلال عشرة أيام من تاريخ تبليغه إذا لم يكن موجوداً وقت تنظيم المحضر على العنوان المدون لدى هيئة إدارة السير، وبما أن 75 في المئة من السيارات لا عناوين صحيحة لمالكيها الذين يبيعون سياراتهم عبر وكالات منظمة لدى كاتب العدل من دون تسجيلها في إدارة السير، بالرغم من أن هذا البيع لا مفعول له تجاه الآخرين أو الدولة، ولا يُعتد قانوناً إلا بالوكالة الأولى التي تسري صلاحيتها مدة شهرين. وتكون النتيجة احالة معظم المخالفات إلى القاضي الجزائي لعدم سدادها خلال المهلة. ونظراً إلى تسجيل 540200 محضر منظم من مفارز قوى الأمن الداخلي حتى 6 تشرين الأول 2012 يتحول كاتب المحكمة إلى قاضٍ، وينقلب قلم المحكمة إلى محكمة بحد ذاتها فتخصص فيه طاولة للقرارات الجزائية المختصة بالسرعة الزائدة التي يسطرها الكاتب وفق نموذج موحد لا يراعي تكرار الفاعل للجرم».
وإذ يشير المستشار القانوني لـ«جمعية اليازا» لحود لحود إلى أنه يحق للمخالف الاعتراض على هذه القرارات ضمن المهل، من دون دفع الرسم المالي بارساله عبر البريد المضمون إلى المحكمة ويمكن لها أن تحكم للمعترض الذي تثبت براءته باسترداد الغرامة مع امكان ملاحقة منظمي المحضر. لكن هذه العدالة القائمة على مبدأ «نفذ ثم اعترض» تفقد كثيراً من قيمتها اذ ينص القانون على أن «الاعتراض يمارس بعد أن يدفع المخالف الغرامة».
ويشرح لحود: «ما هو أكثر خطورة هو شيوع ثقافة «القضاء والقدر» التي تصنف تحت عنوانه حوادث السير التي بلغت وفق احصاءات قوى الأمن الداخلي 4583 في العام 2010 وتسببت بمقتل 549 ضحية وجرح 6517 شخصاً في موقع الحادث فحسب، ويؤمن القضاة بها، وإلا فلماذا لا ينزل أي منهم عقوبة الحبس القصوى ثلاث سنوات في المتسبب بالقتل ؟». يضيف: «ان نزف الشباب على الطرق يعود إلى تفريط بعض القضاة، فإذا اتاح القانون للقاضي أن يقرر التوقيف استنسابياً فلحرصه على حرية المخالف الشخصية، لا ليفتح المجال أمام تدخل المحسوبيات. كذلك الأمر بالنسبة إلى الكفالة التي باتت تفصّل على قياس «الواسطة».
لا يلقي الخبير عاصي كل اللوم على القاضي معتبراً أن «عينه رمداء ويديه مغلولتان، فخبراء السير هم القضاة في الشارع وعيون القاضي في المحكمة ومعظمهم لا يحمل حتى شهادة سرتفيكا». وهو اذ يعرض نماذج من تقاريرهم المتضمنة عبارات تنم عن جهل تام في قانون السير والحد الأدنى من مبادئ اللغة، يلفت النظر إلى طفرة غريبة في عددهم الذي تجاوز الألفين. أما اختلاف «مرجعياتهم» فيضع علامات استفهام حول حيادية تقاريرهم التي تعتمد المحاكم عليها، بحيث يمثلون أمامها للادلاء بالشهادة، فمنهم التابعون لشركات التأمين التي يعدون تقاريرهم ضماناً لمصالح زبائنها أو معتمدون من النيابة العامة التي بات دورها مغيباً في ظل استدعاء الشرطة والقوى الأمنية خبراء سير مقربين منهم. يضيف: «هذا العدد في ازدياد مطرد بسبب صدور ملاحق تعيين دورية، وتكاد تكون شهرية لتنفيع المعينين، متجاهلة النصوص التي تنظم المهنة وخصوصاً المادة 54 من قانون القضاء العدلي التي تلزم جميع الخبراء القدامى والجدد بالخضوع إلى دورات تأهيل.
ويعتبر غندور أن تفعيل خطوة قانون السير الجديد الذي نشر في «الجريدة الرسمية» في يوم 25 تشرين الثاني المنصرم، لا يمكن أن تتم من دون محاكم متخصصة في السير. فلكي يكون «للأحمر هيبته»، كما يقول: «نص القانون الجديد على أن يكون لكل سائق سجل مروري فيه 12 نقطة كرصيد، وتسحب منه بالتناسب مع المخالفات المرتكبة وصولاً إلى سحب رخصة السوق منه، لكي لا يقتصر العقاب على الغرامة النقدية، فلماذا ينشأ هذا السجل لدى قوى الأمن الداخلي، وليس لدى وزارة العدل أسوة بالسجل العدلي ووفق ما هو معتمد في الدول المتطورة التي تعتمد نظام النقاط؟ ثم هل من المعقول أن يقوم الرتيب بسحب الرخصة؟ حتى القانون القديم كان يستوجب صدور قرار قضائي لسحبها أو الغائها»، يسأل غندور. يتابع: «أين هو المعهد المتخصص في قوى الأمن الداخلي للإعداد والتدريب على ضابطة السير وعلم الحوادث المنصوص عنه في المادة 218 من القانون الجديد؟».
ويعتبر غندور أن القانون الجديد يهدف إلى مزيد من تحجيم دور قاضي السير نحو «عسكرة» شؤون السير. يضيف: «خلال اجتماعنا واللجنة التي كانت مخولة إعداد القانون الجديد أبدينا هذه الملاحظة، مطالبين بشكل خاص أن ينضم قاضٍ إلى لجان امتحان السوق التي حصرت بموظفي وزارة الداخلية او عناصر قوى الأمني الداخلي، فوجدنا أن القاضي الموجود في لجنة الإعداد قد عمد هو نفسه إلى الاصرار على أن يكون سحب النقاط مولجاً بقوى الأمن الداخلي».
ويشرح المحامي لحود الإصرار على وجود قاضي سير: «بالرغم من أن الايذاء جراء حادث سير هو في معظم الاحيان جريمة مشهودة، إلا أن النائب العام لا ينزل إلى الشارع ويكشف بنفسه على مكان وقوعها، كما ألزمته المادة 31 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، كأن دم القتيل بحادث سير أرخص من دم المقتول برصاصة». يضيف: «في المقابل حاولنا التعويض بتوسيع مروحة المحاكم المختصة التي لم تعد تقتصر على القضاة المنفردين في المحافظات بل تعدتها إلى محكمة الجنايات، وتشديد العقوبات حتى الحبس 5 سنوات».
في ظل عدم صدور أي من المراسيم التطبيقية لقانون السير الجديد، وعدم وجود أي بوادر في الأفق توحي بأن ورشة المراسيم التطبيقية انطلقت، تعيش الطرق والسلامة المرورية وأروقة المحاكم أزمة حقيقية، ومفاتيح الحلول المقدمة لا يعد دورها أكثر من العبث الصاخب داخل فتحات الأقفال.