واقع اجتماعي يفرض نفسه في مناطق عدة في الجنوب، كما في معظم الأراضي اللبنانية. عائلات عرضة للتشرد في ظل غياب معيليها المحكوم عليهم في السجن بسبب أو بدون سبب، وفي ظل غياب أي دور للدولة في مساعدة هؤلاء أو في تقديم أبسط حقوقهم الاجتماعية. هنا تبدأ القصة. «منذ بدأنا عملنا الأساسي في ترميم السجون، وجدنا أن المشكلة ليست في السجون نفسها، بل في ما تخفي خلف جدرانها من قصص لأشخاص فقدوا عائلاتهم بسبب دخولهم السجن، إن من خلال الانفصال عن زوجاتهم أو من خلال لجوء أفراد العائلة إلى الانحراف من أجل تأمين لقمة العيش». من هنا، بدأ سامر حيدر، وهو مدير المشاريع في «منظمة شيلد»، بتمويل من «مؤسسة دروسوس» السويسرية، المشروع الأول من نوعه في لبنان في العام 2011، وهو دعم السجناء وعائلاتهم. يشرح حيدر الآلية التي تتبعها المنظمة في اختيار العائلات أو السجناء في المشروع. «لقد قمنا بمسح شامل للسجون في جنوب لبنان وتحديدا في قضاءي صور والزهراني، واخترنا 35 عائلة من أجل مساعدتها على فتح مشاريع صغيرة، أما قيمة المشروع فهي تبلغ 90 ألف دولار أميركي.
أما أشكال الدعم فتختلف.. والمستفيدون 35 عائلة في 14 مهنة. ويهدف المشروع بحسب حيدر إلى مساعدة السجين عندما ينهي فترة حكمه أو مساعدة عائلته في حال كان لا يزال محكوما عليه، في تأمين مشروع صغير يؤمن الدخل الذي يعيل العائلة. في البدء، يخضع السجناء أو أفراد عائلاتهم الذين تم اختيارهم بحسب المعيار الأخلاقي لدورات تدريبية كل بحسب مهنته أو مهارته بالتعاون مع مؤسسات مدنية تتوزع على مختلف المناطق في الجنوب. وبعد الانتهاء من مرحلة التدريب واختيار الأشخاص المؤهلين بحسب الكفاءة والاستعداد النفسي للبدء بالعمل، يقدم المتدربون فكرة مشروع ليتم الانتقال في ما بعد إلى مرحلة تنفيذه. هنا، يتم تحديد الفترة الزمنية لتنفيذه ومن ثم يصار إلى توقيع اتفاق تعهد وإقرار بين المستفيدين والمنظمة ليسجّل لدى كاتب العدل. أما كلفة كل مشروع، فتتراوح بين الألف دولار والتسعة آلاف دولار.
تختلف المهن التي يتقدّم بها السجناء وعائلاتهم للمنظمة من أجل مساعدتهم في إنشائها كالخياطة (5 عائلات)، وتزيين الشعر النسائي (5 عائلات)، والسمانة (5 عائلات)، ومحال للهدايا (4 عائلات)، وكهرباء منازل (3 عائلات)، ومحال للكمبيوتر (3 عائلات)، وفرن (عائلتان)، وونش عمار (عائلتان)، وملحمة (عائلتان)، وسقالة عمار (عائلتان)، وإصلاح دواليب (عائلة)، ونقل عام (عائلة)، وبائع متجول (عائلة)، وخيمة زراعية (عائلة).
أما التوزع الجندري للمستفيدين فهو على الشكل التالي: 18,51 في المئة هم ذكور، و17,49 في المئة نساء. أيضا، خضع 50 شخصا لدورات مهنية واستفاد منهم 18 فردا، في حين لم يخضع 20 شخصا للدورات واستفاد 17 منهم في التدريب.
يشرح أستاذ علم الاجتماع طلال عتريسي أن للمشروع أهميتين أساسيتين. الأولى، «تكمن في أن تأمين فرصة عمل للسجين بعد خروجه من السجن مباشرة يساعده على الاندماج بالمجتمع، وهذا عامل مهم جدا يمنعه من اللجوء مرة أخرى إلى الخطأ». أما الأهمية الثانية، فهي مرتبطة بعائلة السجين. «في ظل غياب ربّ المنزل، تشعر العائلة بالكرامة والاستقرار حين يتم تأمين مورد رزق لها وإن كان المردود متدنيا، بدلا من الشعور بالمذلة في طلب الصدقة من المؤسسات الخيرية أو الحزبية وغيرها».
التعاون مع السجناء
بالطبع، ليست المهمة سهلة، بل يتداخل فيها العامل الإنساني والعائلي والنفسي والاجتماعي. يشرح منسق منطقة صور في المنظمة محمد رضا عن الصعوبات التي تواجهها المنظمة من أجل إقناع عوائل السجناء أو السجناء أنفسهم بالقبول بمبادرة المنظمة. «عندما نزور المساجين لنعرض عليهم المبادرة، كنا نعامل باستغراب وحذر تام. من هنا، وكي نثبت للمساجين أننا جديون في طروحاتنا، كنا نؤمن لهم بعض المساعدات البسيطة مثل خط هاتف كي يتواصلوا مع عائلاتهم». هنا، تبدأ العلاقة تأخذ منحى آخر. قليل من الثقة والارتياح، حتى يستجيب السجين، فيعطي الأمر لزوجته باستقبال فريق عمل المنظمة في المنزل لتبدأ بعد ذلك رحلة العائلة نحو مستقبل أكثر أمانا. هنا، يوضح رضا أن المساعدات تشمل أيضا تأمين أقساط المدارس والقرطاسية وغيرها من الأمور الحياتية الأساسية. على الرغم من ذلك، «غالبا ما يواجه فريق العمل رفضا كاملا من بعض السجناء، الذين إما وصلوا إلى مرحلة اليأس أو يتمتعون بوضع مادي مقبول نسبياً، أو أنهم لا يقبلون أن تستقبل زوجاتهم غرباء في منازلهم والتعاون معهم لفترة طويلة في غيابهم».
يحاول سليمان الرباب (21 عاما) تجاهل ما حصل معه منذ عامين. في ذلك النهار، قتل سليمان عن طريق الخطأ أحد الشباب بسبب مشكلة عائلية. دخل السجن. وبعد خروجه، نصحه أحد الأصدقاء بالتواصل مع «شيلد». «بدأت أسمع أن هذه المنظمة تقوم بمساعدة السجناء، فلجأت إليها لأنني كنت بحاجة إلى من يصوب وجهتي وبطريقة ما يحتضنني لأنني كنت بحاجة إلى عمل، وكنت خائفا أن لا أجد عملا بسبب نظرة الناس إليّ». منذ عام، فتح سليمان ملحمة بلغت تكلفة تجهيزها ما يقارب 5500 دولار. قبل دخوله السجن، كان يعمل في أحد المحال في المنطقة، وكان دخله حينذاك يناهز 300 دولار. أما اليوم، بعد تنفيذ المشروع، فيؤمن له المحال مدخولا شهريا بقيمة 1500 دولار. ولعل أهم ما يميز عمل المنظمة، هو أنها تبقى على تواصل دائم مع الأشخاص الذين تساعدهم، وهو ما حصل مع سليمان، إذ تعمل المنظمة حاليا على تأمين براد جديد لمحله.
مفاهيم مجتمعية ظالمة
لعل بعض جوانب تجربة سليمان قد تفتح نافذة على مشكلة يعاني منها مجتمعنا، وهي النظرة النمطية دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل حالة. لا يوافق عتريسي كثيرا على تلك المقولة. انطلاقا من مشاهدته في مشروع السجون، يرى أن تلك النظرة تتفاوت بين الناس. «لقد تفاجأت شخصيا من طريقة معاملة الناس الجيدة للسجناء، وهي تدل كيف أن لدى مجتمعاتنا القدرة على التقبل».
لمحمد تجربة مختلفة. «كان يقضي معظم وقته مع رجل الأمن حتى لا يختلط بهم. حتى لا يكون مثلهم. هو لم يرتكب أي جريمة. كان يعيش منقسما بين عالمين». هي قصة محمد الذي حكم عليه لعامين لأنه اعتدى على رجل أمن في موقف استفزازي. بعد خروجه من السجن، لم يتحمل ما تعرضت له والدته من إهانة نفسية نتيجة الحكم الذي أصدره المجتمع عليه. «أنت مجرم، وهي والدة مجرم». تبتسم وسام، والدة محمد. «لقد قرر الهروب من واقع لم ينتم إليه يوما، فهاجر».
منذ عام، ساعدت «منظمة شيلد» وسام، التي تعمل مزينة شعر على تطوير صالونها الخاص. «أشعر اليوم براحة نفسية وثقة أكبر في داخلي على الرغم من غصتي لسفر ولدي الوحيد». بحماسة ظاهرة، تروي كيف أن نسبة الزبائن زادت بعد تحسين مظهر المحال، وهي تتطلع إلى تطويره أكثر.
حاليا، تعمل المنظمة على متابعة العائلات التي وفرت لها المساعدات في تأمين عمل لها، كما تعمل على مساعدة عدد جديد من العائلات بعد الحصول على التمويل من السفارة الأسترالية في لبنان. هو «مشروع متقدم، وعلى جميع المؤسسات والبلديات أن تقدم مثله»، كما وصفه عتريسي، ما يفتح النقاش والمساءلة حول دور الدولة والمؤسسات المعنية في إعداد وتنفيذ برامج وسياسات حقيقية وواقعية للعائلات المحتاجة في لبنان، من ضمنها عائلات السجناء كي لا يلجأ افرادها إلى طرق ملتوية من أجل تأمين أبسط حقوقهم الإنسانية، والتي من شأنها أن تزيد من نسبة الجريمة أو التفلت الأخلاقي أو التشرد.