تدخل جولة العنف الـ14 بين المناطق الساخنة في التبانة والقبة والمنكوبين وجبل محسن في طرابلس اليوم أسبوعها الأول، حاصدة حتى الآن 17 قتيلا ونحو 90 جريحا، في ظل ارتفاع منسوب الخوف لدى المواطنين من أن تتحول مدينتهم إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات المحلية والاقليمية.
ويأتي ذلك، بعد أن خاب أمل الطرابلسيين بإيجاد حل جذري وسريع لحالة الفلتان الأمني التي ترخي بثقلها عليهم وتجعل المسلحين يتحكمون برقابهم، بعد اجتماع مجلس الدفاع الأعلى الذي لم تظهر أي من نتائج مقرراته السرية على أرض الواقع.
وقال مرجع أمني واسع الاطلاع لـ«السفير» ان الجيش بدأ اعتبارا من الحادية عشرة من ليل امس، بدخول منطقة جبل محسن أولا على ان يدخل فجر اليوم الى التبانة من أجل الامساك بكل مفاصل المنطقتين، مع أوامر مشددة بإطلاق النار على كل من يعترض الجيش أثناء تنفيذ انتشاره العسكري.
ولم تحمل زيارة وزير الداخلية العميد مروان شربل، ولو أنها جاءت متأخرة، أية عناوين محددة للمعالجة، فكان أن عاد شربل من طرابلس خالي الوفاض، يحمل عتبا على الكوادر المحلية في التبانة التي رفضت تلبية دعوته للإجتماع والتي جاءت عبر وسيط، وعتبا عليه من قيادة «الحزب العربي الديموقراطي» لاستماعه الى طرف واحد من دون الطرف الآخر.
في الوقت نفسه، غابت قيادات المدينة عن السمع، بعدما ثبت عجزها عن التأثير إيجابا في إعادة الهدوء الى ربوع المدينة أو في «الموّنة» على المسلحين الخارجين عن أي سيطرة، لتبقى طرابلس غارقة في «حمام دم» من صنع أبنائها، فيما اقتصادها ينزف ويلفظ أنفاسه الأخيرة، قبل اسبوعين من عيدي الميلاد ورأس السنة.
ويمكن القول، أن من أراد من الجولة 14 أن تكون مجرد «تنفيسة» للاحتقان الذي أحدثته عملية قتل الاسلاميين في كمين تلكلخ، فقد زمام التحكم بالمعطيات الميدانية، بعدما خرجت المعارك عن سيطرته، أولا، وعن سياقها التقليدي عنفا وأسلحة ووقتا، ثانيا، وحصدت من القتلى أضعاف ما سقط في ذاك الكمين ثالثا.
وفي هذا الاطار، بدأ التعاطي بالحديد والبارود والنار يترجم كل الأحقاد السياسية في لبنان على الساحة الطرابلسية، ويطرح شروطا وشروطا مضادة، بدءا بمطالبة بعض القيادات السياسية والدينية بحل «الحزب العربي الديموقراطي» وإخراج رفعت عيد من جبل محسن ومصادرة سلاحه وإحالة عناصره الى القضاء المختص، وصولا الى رد قيادة الحزب بمطالبتها بحقوق الطائفة العلوية في سلك الدولة وفي التمثيل الصحيح للطائفة في مجلس النواب، وتأكيدها أن أحدا لا يمكن أن يلغي العلويين الذين هم من نسيج طرابلس، فضلا عن الرد الشرعي الذي صدر عن رئيس المجلس الاسلامي العلوي، الذي اعتبر فيه أن رفعت عيد «هو الممثل الشرعي والوحيد للطائفة».
ولا شك أن هذه المستجدات في المواقف والشروط، قد نسفت بشكل كامل بنود وثيقة التفاهم التي أبرمت في أيلول من العام 2009 في منزل المفتي مالك الشعار بمصادقة كل المراجع السياسية السنية والعلوية.
وإذا كانت التطورات الحاصلة باتت بحاجة الى وثيقة جديدة تضع حدا لجولة العنف رقم 14، إلا أن ذلك يبدو مستحيلا في ظل الانقسام العمودي الحاصل سواء على صعيد السياسة اللبنانية أو حيال ما يجري في سوريا. وهو ما قد يجعل طرابلس في حالة استنزاف أمني دائمة إذا لم تشهد الساعات المقبلة قرارا حاسما بوضع حد للمسلحين وللسلاح المتفلت من عقاله في شوارع المدينة.
والمستغرب اليوم في طرابلس، أن كل القيادات السياسية اكدت أنها لا تغطي أحدا من المسلحين. ودعت كل مناصريها، أكثر من مرة، الى الخروج من الشارع. كما أعلنت القوى الاسلامية والسلفية براءتها مما يجري، فيما قالت قيادة «الحزب العربي الديموقراطي» إنها تترك أمر الرد الى الجيش، وادانت استهدافه «من قبل بعض المجموعات المرتزقة»، مؤكدة «أن الجيش هو صمام الأمان ودرع الوطن»، ومعتبرة أن «استهدافه محاولة لجر البلاد الى أتون الفتنة». ورأى الحزب «ان المعركة التي تستهدف الحزب وجبل محسن، محاولة بائسة لضرب الأمن والاستقرار. وأكد على أنه «يعتبر أن طرابلس مدينته، وأهلها أهله، وما يجمع في ما بيننا أكثر مما يفرقنا».
ميدانيا
وكانت طرابلس، واعتبارا من الساعة العاشرة من ليل السبت ـ الأحد الماضي قد شهدت اشتباكات عنيفة جدا، لم تشهدها منذ العام 1985، فاشتعلت المحاور كافة واستخدم المسلحون الأسلحة الرشاشة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، والقنابل اليدوية، والقذائف الصاروخية من «أربي جي» و«ب 7» و«ب 10»، وصولا الى قذائف الهاون من عياري 60 و82 ملم والتي تستخدم للمرة الأولى منذ اندلاع جولات العنف في أيار من العام 2008.
وقد اشتدت حدة المعارك بعد منتصف الليل لا سيما على محاور: الحارة البرانية، سوق القمح، الشعراني، السيدة، الأميركان، البقار، الريفا والمنكوبين، وتردد دوي أصوات القذائف في أرجاء طرابلس ووصلت في بعض الأحيان الى 3 قذائف في الدقيقة الواحدة، كما طالت قذائف الهاون بعض أحياء الزاهرية والسقي الشمالي وأحد المباني في شارع الثقافة، وأخرى سقطت في شارع عزمي لجهة المستشفى الاسلامي لكن ذلك لم يسفر عن خسائر بشرية.
واستمر الوضع على ما هو عليه الى ساعات الصباح الأولى، حيث أفادت معلومات بحصول عمليات اقتحام وتسلل متبادلة بين الطرفين لا سيما في البقار والشعراني والمنكوبين، وذلك في محاولات كانت ترمي الى تضييق الخناق على جبل محسن والعمل على محاصرته. في وقت بذل فيه الجيش اللبناني جهودا مضنية من أجل التخفيف من حدة المعارك على بعض المحاور من خلال رده العنيف على مصادر النيران.
في غضون ذلك، كانت محاور التبانة، حتى ما قبل منتصف الليل، أخف وطأة من المحاور الأخرى، خصوصا بعد الاجتماع الذي عقدته القوى الاسلامية والسلفية فيها. وأكدت في بيان لها على دفع التهمة المنسوبة إليها بافتعال الأحداث في المنطقة والاخلال بالأمن، لافتة الانتباه الى أن ذلك ينافي الاسلام، مشددة على حرصها بضرورة الابتعاد عن الفتنة.
لكن هذا البيان لم يترجم على الأرض، حيث ما لبثت أن عنفت الاشتباكات على هذه المحاور من سوق الخضار، طلعة العمري، ستاركو، الشيخ عمران، البازار والملولة مع ساعات الفجر. وشهدت مناطق التبانة والقبة والمنكوبين وجبل محسن واحدة من أعنف المعارك على الاطلاق.
كما جابت سيارات مجهولة في مناطق التل وباب الرمل وابي سمراء وقام من بداخلها باطلاق النار ما أثار حالات رعب في صفوف المواطنين.
وصباح أمس، ساد هدوء حذر في المحاور، كانت تخرقه أعمال القنص التي لم تتوقف، والرشقات النارية بين الحين والآخر، فيما استمر الجيش يرد على مصادر النيران من دون أن يتمكن من إخمادها بالكامل. وقد تعرض مركزه في الشارع الجديد في جبل محسن لقذيفة هاون أدت الى جرح اثنين من العسكريين.
وبعد الظهر، تجددت الاشتباكات على بعض المحاور وعاد المسلحون لاستخدام القذائف الصاروخية واستمر ذلك بشكل متقطع حتى ساعات الليل الأولى، فيما أعاد الجيش اللبناني انتشاره وكثف تواجده على المحاور مجددا محاولاته لضبطها.
واستمر في ضرب طوق أمني حول المناطق الساخنة، وإقامة حواجز تفتيش ثابتة، أوقف خلالها عددا من الأشخاص المشتبه بهم. وأصدرت قيادة الجيش، في هذا الصدد، بياناً أكدت فيه أن القوى المنتشرة في طرابلس تواصل تعزيز إجراءاتها الأمنية لقمع المظاهر المسلحة وإعادة الأمن والاستقرار فيها، مشيرة إلى سقوط رمانة يدوية قرب أحد المراكز العسكرية في المنطقة، ما أدى إلى إصابة عسكريين اثنين وأحد المدنيين بجروح.
وكانت خدمة «الجيل الثالث» قد توقفت منتصف ليل 9 كانون الأول عن العمل «بسبب إصابة محول محطة التبانة الخناق التي تغذّي محافظة الشمال وقضاءي جبيل وكسروان. وهو ما أثر على خدمة الجيل الثالث في المناطق المذكورة، علما ان «شركة touch» اكدت في بيان امس، أن «العمل جار لإصلاح الأعطال وإعادة الخدمة».
معالجات غبر مجدية
وكانت المعالجات استهلت منذ صباح يوم السبت، فوصل وزير الداخلية العميد مروان شربل الى طرابلس وترأس مجلس الأمن الفرعي واستمع من ضباط الأجهزة الأمنية إلى كل التفاصيل المتعلقة بالمواجهات المسلحة الضارية.
وعقد شربل مؤتمرا صحافيا أكد فيه أن «القضاء والقوى الامنية والعسكرية ستتحرك بصرامة وقوة لوضع حد لما يجري في طرابلس». أضاف: يجب أن يعالج بشدة لان الوضع لم يعد يحتمل وثمة خوف شديد من تطور وامتداد الازمة الى خارج المدينة.
واشار شربل الى أن القوى الامنية والعسكرية لم تتأخر في معالجة الاحداث انما رأينا انه من المستحسن معالجة الموضوع «بالشدة المقرونة باللين» وليس معنى ذلك انه امن بالتراضي لا بل هو حل للموضوع باقل قدر ممكن من الخسائر» وأكد أن كل السياسيين في لبنان يرفضون تغطية أي مسلح يروع الآمنين.
وقال: طرحنا أن تكون صيدا منطقة عسكرية، ولأسباب أو أخرى رفض الطلب، وسنطرح الموضوع عينه بالنسبة لطرابلس وسننتظر الجواب.
ثم انتقل شربل إلى منزل النائب سمير الجسر حيث عقد اجتماعا مع نواب طرابلس والضنية وعكار.
وكان عقد اجتماع للنواب في منزل الجسر، أصدروا بعده بيانا رفضوا فيه أن تدفع طرابلس دائما ثمن الصراعات السياسية. وشددوا على أن لا بديل عن الدولة لكل الناس، لأنها المظلة الأمنية الوحيدة، وأن الأمن الذاتي هو وهم وتوطئة لكل اقتتال. وأكدوا على «عدم القبول بعد اليوم بالتراخي او بالتمييز في معالجة الامور بين منطقة واخرى او بين فريق وآخر».
وقال البيان: إن تذرع القوى العسكرية والامنية بتوفير الغطاء السياسي لفرض الأمن من قبل القوى السياسية محلية أو وطنية او الفاعليات الشعبية هو تبرير لكل تقاعس.
المجتمع المدني
وتدارس المجلس المدني لمدينة طرابلس الأوضاع الأمنية في المدينة وما تخلفه الاشتباكات من أضرار على صعيد الحركة الاقتصادية والتجارية، خلال اجتماع عقد في دار الفتوى. وأعلن رئيس بلدية طرابلس الدكتور نادر غزال باسم المجتمعين عن الاعتصام قبل ظهر اليوم أمام مبنى سراي طرابلس استنكارا لاستمرار الفلتان الأمني في طرابلس. كما دعت جمعية «بوزار» الى أوسع مشاركة في الاعتصام.
وقام وفد من الفاعليات والجمعيات الأهلية وهيئات المجتمع المدني في طرابلس بزيارة محافظ الشمال ناصيف قالوش وسلمه مذكرة تدعو الى وقف الاقتتال فورا، وملاحقة جميع المرتكبين لأي جهة انتموا وتحويلهم إلى القضاء المختص وكشف الجهات الداعمة لهم، وإجراء المصالحات الشاملة.
وحمّلت «هيئة العلماء المسلمين» في لبنان مسؤولية استمرار المعارك الى الجيش اللبناني، وطالبته بمحاسبة المعتدين والمستفزّين ومثيري النعرات والفتن وعدم وقوفه طرفاً، داعية «الى توقيف العصابة المسلّحة المزروعة في جبل محسن والتي تدين بالولاء للنظام السوري وسحب السلاح المنظّم منها وإحالة مسؤوليها والمتورطين إلى القضاء المختص حفاظاً على العيش المشترك وعلى الطائفة العلوية تحديداً».