رغم وطأتها، لم تحجب أحداث طرابلس الجدل الدائر حول انتخابات 2013 ، ولا حول قانون الانتخاب. يوحي فريقا 8 و14 آذار بأن الانتخابات واقعة حتماً، ويتصرّفان _ وهما يتبادلان الاتهامات والشكوك وإلقاء العراقيل _ كما لو أنها مؤجلة. الثابت الوحيد بينهما قانون 2008
لا تزال المواقف المتناقضة المتبادلة بين قوى 8 و14 آذار من قانون الانتخاب تمثّل الدينامية الوحيدة التي تحوط انتخابات 2013. إلا أنها لا تجزم بالضرورة بحصولها في موعدها في حزيران المقبل. لا يتفق الفريقان سوى على ما لا يريدانه علناً، وهو قانون 2008 والإصرار على رفض المشاركة في الانتخابات في ظلّ أحكامه. لكنهما يعرفان أيضاً استحالة الاتفاق على قانون جديد آخر، وبالتأكيد على إمرار أي من المشاريع والاقتراحات التي يتقاسمان المطالبة بها: مشروع النسبية واقتراحا الدوائر الـ50 واللقاء الأرثوذكسي. يصحّ ذلك أيضاً على ما يتردّد عن احتمال تعديل قانون 2008.
غير أن أياً من المشاريع والاقتراحات تلك لا يحظى بغالبية نيابية، بما فيها مشروع قانون النسبية الذي أحالته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على مجلس النواب. لم يعد بعض الحكومة يريده، ولا يُصوّت له في مجلس النواب. تحت وطأة اللاءات المتبادلة بين قوى 8 و14 آذار تمسي نعم وحيدة حتمية بينهما، هي إجراء انتخابات 2013 وفق قانون 2008، أو لا انتخابات في موعدها. إلى الآن، ليس ثمّة ما يوحي بخيار سواهما على وفرة إصرار الطرفين على إجراء الانتخابات. لا قوى 8 آذار قادرة بمفردها على الذهاب إلى مجلس النواب للتصويت على مشروع النسبية، ولا قوى 14 آذار جاهزة بدورها للموافقة على هذا المشروع ـــ وهي ترفضه أساساً ـــ أو أي آخر سواه بما فيه الدوائر الـ50 في ظلّ مثول حكومة ميقاتي أمام المجلس.
عند هذا المأزق، تتقاطع علاقتهما برئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي يقارب مشكلتيهما على نحو مختلف. لا يشارك أياً منهما هواجسه، ويحدس بحساباته وحده. بين يديه الحلّ الذي يطلبه كل من الفريقين: تريد منه الموالاة توفير الغالبية النيابية لإمرار مشروع النسبية، وتريد منه المعارضة الانقلاب على حكومة ميقاتي لإسقاطها. كلا المطلبين يرفضه جنبلاط الذي رسم لنفسه أولويات مغايرة: بقاء حكومة ميقاتي، والمحافظة على موقعه الوسطي كي لا يعود إلى أي منهما بعدما خبرهما في ما مضى عندما تزعم قوى 14 آذار، ثم عندما انضم إلى قوى 8 آذار.
تكمن المعادلة عندئذ في تعطيله الغالبية النيابية، من دون تفكيكه الغالبية الحكومية.
لا يعكس تمسّكه المعلن بقانون 2008، الذي لا يعني لجنبلاط إلا صورة مطابقة لقانون 1960 بكل الامتيازات التي منحها لوالده الراحل، معادلة البقاء في الوسط. بل لا يوفر له قانون 2008 امتيازات عقد ونصف عقد من الزمن بين عامي 1960 و1972، إلا أنه يجنّبه بالتأكيد الموافقة على كل صيغة أخرى سواه، وخصوصاً المدرجة في جدول أعمال اللجان النيابية المشتركة. إلا أن قانون 2008 لا يقل تهديداً لجنبلاط عن الصيغ الأخرى تلك، لأسباب منها:
1 ـــ خوض انتخابات 2013 يُخرج جنبلاط فوراً من الموقع الوسطي إلى البحث عن شريك انتخابي يحتاج إليه حتماً: التحالف مع الثلثين الباقيين المؤثرين في مسار دائرة الشوف، وهما الناخبون المسيحيون والناخبون السنّة. من دون التحالف مع أحدهما، سواء في قوى 8 أو 14 آذار، لن يسع جنبلاط الفوز بلائحة المقاعد الثمانية في هذه الدائرة. على أن هاجس التحالف يصبح أكثر عبئاً عليه في انتخابات 2017 في ضوء إحصاءات وتقديرات تنبئ، منذ اليوم، بأن الناخبين السنّة في إقليم الخروب سيرجّحون وحدهم كفة فوز اللائحة على الناخبين الدروز والمسيحيين معاً.
2 ـــ في ظل الحقبة السورية بين انتخابات 1992 و2000، سيطر جنبلاط على لائحة الشوف تماماً، وعُدّت لائحة زعامته بما فيها من ألحّ عليه السوريون في ذلك الحين ضمّهم إليها. كانوا أعضاء لائحته، ومن ثمّ كتلته النيابية لا شركاء له، على صورة مطابقة لما كان عليه والده كمال جنبلاط بين عامي 1960 و1972. منذ انتخابات 2005، بات لجنبلاط الابن حلفاء في عداد لائحته الانتخابية، ولكنهم أعضاء في كتل نيابية أخرى. خبر ذلك في انتخابات 2009 أيضاً قبل أن يغادر قوى 14 آذار. على أبواب انتخابات 2013، لم يتبقَ من لائحة المقاعد الثمانية في الشوف سوى نصفها: نصف أول درزي وسنّي وماروني وكاثوليكي في جبهة النضال الوطني، أما الباقون فإلى كتل أخرى: جورج عدوان إلى حزب القوات اللبنانية، ودوري شمعون إلى حزب الوطنيين الأحرار، ومحمد الحجّار إلى تيّار المستقبل، ومروان حمادة إلى نفسه.
3 ـــ رغم أن قانون 2008، شأن قانون 1960، منح البيت الجنبلاطي زعامة أحادية على الطائفة يمتد تأثيرها إلى سيطرته على التمثيل الحكومي والتعيينات في الإدارة والأسلاك العسكرية، إلا أنه وضع جنبلاط ـــ ولا يزال ـــ تحت وطأة ابتزاز في أكثر من دائرة لا يسعه بمفرده الفوز بمقاعد طائفته فيها. هي حال مقعدي البقاع الغربي وبيروت في الفكّ السنّي، ومقعدي بعبدا ومرجعيون _ حاصبيا في الفكّ الشيعي. جنّبه تحالفه من داخل خيار سياسي مع الرئيس سعد الحريري في انتخابات 2005 و2009 قلقه من الصوت السنّي، وضمَنَ له تفاهمه التاريخي مع الرئيس نبيه برّي منذ انتخابات 1992 بقاء النائب أنور الخليل في دائرة مرجعيون ـــ حاصبيا.
يكمن هنا مغزى الهدية المسمومة في قانون 2008، في ظلّ الانقسام الحاد بين قوى 8 و14 آذار، عندما يحيل جنبلاط على أبواب انتخابات 2013، نائياً بنفسه عن هذين الفريقين على السواء، رئيس لائحة انتخابية ضعيفة في الشوف. وقد تكون الأضعف. لا يعوّضه تحالف محتمل مع الرئيس ميشال عون الخزّان السنّي الذي يفتقر إليه رئيس التيّار الوطني الحرّ في إقليم الخروب، ولا يتحمّس الحريري للائتلاف معه من دون تلبيته الشروط نفسها التي أملتها عليه الرياض في مقابل استقباله، وهي إخراج وزرائه من حكومة نجيب ميقاتي وتفكيك الأكثرية النيابية.
4 ـــ بالتأكيد يحتاج جنبلاط، كي يبقى في الوسط بين الطرفين، إلى تأجيل الانتخابات النيابية بضعة أشهر قد تكون كفيلة بإحداث موازين قوى جديدة يكون هو في صلبها. حمله موقع الوسط ـــ غير المألوف في تقاليد المختارة والزعامة الجنبلاطية اللصيقة بالمجازفة، وفي تاريخه السياسي هو بالذات منذ عام 1977 ـــ على موازنة علاقته مع الفريقين الآخرين: يبيع لدى قوى 14 آذار سلعة انضمامه إليها في تأييد الثورة السورية والحضّ على إسقاط الرئيس بشّار الأسد، ويشتري لدى قوى 8 آذار سلعة دعمه سلاح المقاومة والمحافظة على غالبيتها النيابية عبر حكومة ميقاتي.
يصحّ ذلك كله إلى أن يحين أوان الانتخابات... إذا حصلت.