محمد نزال
في جبل محسن لا يحبّون «التشبيح» بالسلاح. يملكون منه الكثير، لكنهم لا يظهرون به، على عكس «الطرف الآخر». الآخر هنا باب التبانة وأخواتها. بهذه المفردات يتحدّث مسؤول أحد المحاور العسكرية في الجبل. منذ أكثر من 4 سنوات، مع انطلاق جولات العنف بين الجارين المنصهرين جغرافياً، كانت عدسات الكاميرات تأخذ «السبق الصحافي» من مسلحي التبانة.
في الواقع، يصعب وصول الصحافة إلى الجبل أثناء المعارك، وبالتالي تقتصر التغطية المصوّرة، غالباً، على الجهة الأخرى. وقتذاك تكون الكلمة لرصاص القنص. بعد أن تضع المعركة أوزارها، يمكن لمن يريد أن يدخل إلى الجبل، لكن مع ذلك لا ينجح في رؤية مظاهر عسكرية. هنا ثمة «قرار قيادي بعدم إظهار ما لدينا». يتحدّث المسؤول العسكري مع «الأخبار» بوجه مكشوف غير ملثّم، شرط «عدم التصوير». مردّ القرار إلى «الحرب النفسية... دعهم يحللون كيفما شاؤوا.. نسمع كثيراً ولكن لا نعلّق. لا نثبت ولا ننفي». ثمّة سبب آخر لعدم ظهورهم بالسلاح. يتحدّث المسؤول عن «أخلاقيات الحرب». يقول: «لا معنى لهذا الظهور سوى التشبيح في الإعلام، عرفنا أن البعض في التبانة يأخذون الأموال من بعض الصحافيين بغية تمكينهم من أخذ اللقطات أثناء إطلاق النار، ولو كان في الهواء... نحن لا نفعل ذلك».
أخيراً، وبعد مشاورات مع «القيادة»، يُسمح لـ«الأخبار» بجولة على بعض النقاط العسكرية في جبل محسن. جولة على المحاور تجعلك تعلم أن هؤلاء قد أعدّوا، وما زالوا يعدّون، لحرب أبدية. تدخل من أسفل أحد المباني المهجورة، لتجد نفسك في «دهليز» يخرجك من مبنى آخر. إنه طريق سري ينقلك من محور إلى محور ثان. بعض هذه المسارب يمكن القول إنها تحت الأرض. ليست أنفاقاً بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن ربما يصحّ تسميتها «أنفاقاً اصطناعية». الدشم وأكياس التراب تظلل هذه الأماكن. عند أحد المنعطفات، ترى ثغرة في الجدار، يستفاد منها كـ«طلّاقة قنص» باتجاه مشروع الحريري السكني. ذاك المشروع الضخم، المميز ببياض لونه، باتت جدرانه الخارجية تشبه المنخل لكثرة ما تلقّى من رصاص. تجد في بعض طبقاته آثار دمار، فتسأل قائد المحور عنها، فيقول: «إنها قذائف مدفع الـB10». إنه في غاية الصراحة. تزداد صراحته فجأة: «لقد رمينا خلال المعركة الأخيرة الكثير منها، بعدما كانت الدماء تغلي في عروقنا، لأن القائد رفعت عيد لم يكن قد أعطى الأمر بالرد. كدنا نكفر بقرار الصبر والتحمّل».
من في الجبل لا يكنّون العداء للجيش، بل يجهدون دائماً لإظهار أن الجيش هو الحامي الأول والأخير، ولكن «عندما يرفع السياسيون عنه الغطاء، ويصبح عاجزاً عن توفير الأمن، فهنا لا يمكننا إلا الدفاع عن أنفسنا». يلفت الرجل، ذو الثقافة السياسية، والذي يستعمل الكثير من «المصطلحات النخبوية»، إلى أن سبب انتهاء المعارك هو «القتال الذي خضناه لمدة ساعتين. لم نقاتل بالمناسبة سوى ساعتين. جاءنا الأمر بالرد عندما وصلتنا معلومات عن أن مجموعات من التبانة تريد اقتحام مواقعنا، فجاء ردّنا وعلموا أن القصة كبيرة جداً عليهم. رأيناهم كيف أخلوا مناطقهم وأصبحت خالية أمامنا، ولو شئنا لدخلنا إلى عمقهم وفعلنا الكثير، ولكن لماذا؟ نحن ندافع فقط عن أنفسنا، والشعب في طرابلس أهلنا وناسنا ونحن لسنا سوى طرابلسيين».
ننتقل إلى محور آخر، من الأمركان إلى البقار والريفا والملولة والمنكوبين والمهاجرين وغيرها. نصادف مسؤول أحد تلك المحاور، فيلقي التحية على المسؤول العسكري الأول، ثم يبتسم قائلاً: «أعطيناهم درس مرتب هالمرة». قالها مزهواً. لحظة ونكتشف أن نجله «استشهد خلال إحدى المعارك في الجبل». إذاً، الأب والابن كانا في المعركة. ينفي هؤلاء أن يكونوا قد أطلقوا قذائف هاون من العيار الثقيل على أحياء في طرابلس. يؤكدون أنهم رموا فوق المدينة قذائف «آر بي جي من ذوات «الصاعق الزمني». هذه القذائف رميت في سماء المدينة، من دون استهداف المباني، فكانت تنفجر مولدة دويّاً قوياً. لهذا ظن البعض أننا نقصف المدينة، وهذا غير صحيح، لسنا هواة قتل أبرياء، ولكن أوصلنا الرسالة، ونحن نعلم أن كثيرين من المسلحين في التبانة يأخذون قرارهم من سياسيي المدينة، وعندما دوّى صوت غضبنا، انتهت المعركة». يقولون إنها المرة الأولى التي يستخدمون فيها سلاح «دوشكا» الرشاش. لم يعد هذا خافياً. يحدّثك أحدهم أثناء الجولة عن المكان الذي سقط فيه أحد رفاقه. يومئ بإصبعه إلى المكان ويكمل سيره. بدا أن الأمر عنده تفصيل بسيط. تكتشف أنه اعتاد الأمر، وأصبح غياب رفاقه، واحداً تلو الآخر، أمراً عادياً.
لا يبدو هؤلاء ممن يحبون الحرب. خارج المعركة تجدهم من أكثر «المحبين للحياة». يستخدمون هذا المصطلح، فتجده في طريقة لباسهم العصرية، وفي تسريحات شعرهم، وفي ولعهم بالسهر في المقاهي ونمط عيشهم. ليس صعباً اكتشاف التعب الذي لحق بهم. حالهم من حال البيئة الاجتماعية الطرابلسية. تكتشف أن لديهم أعمالهم المعيشية الخاصة، التي «تضررت من جراء المعارك والحالة الأمنية السيئة في عاصمة الشمال، خاصة في ظل عدم دفع أي تعويضات. ولكن هل نسمح لهم بالتعدي على كرامتنا؟ إلى اليوم لا نفهم لماذا فتحت النار علينا، بعد أن قتل لهم مسلحون في تلكلخ، مع علمهم بسعينا سياسياً لاستعادة جثامين هؤلاء. صدقني ما عدنا نفهمهم». أثناء مرورنا أمام إحدى الشرفات، أطلّت سيدة طاعنة في السن، وراحت ترمي الأرزّ على المقاتلين. كثيرون في الجبل، حتى لو لم يكونوا من مؤيّدي الحزب العربي الديموقراطي، أصبحوا اليوم يرون في هؤلاء المقاتلين مدافعين عنهم. ربما الخوف من المجهول الآتي من الآخر، واللغة المذهبية المتفاقمة، يجعلان هؤلاء ينسون أي خلاف سياسي محلي، فيصبحون كلهم واحداً.
مكتب «أدلجة» الشباب
لا يمكن اعتبار الحزب العربي الديموقراطي، في جبل محسن، حزباً حقيقياً بالمعنى التنظيمي للكلمة. المسؤولون لا ينفون ذلك. في الواقع هو أقرب إلى التيار أو إلى الحالة الشعبية. في الآونة الأخيرة، قرر المسؤولون إجراء «نفضة» تنظيمية للحزب. افتتحوا أخيراً مكتباً خاصاً تحت عنوان «مكتب الشباب». الغاية منه استقطاب الشباب، بل «أدلجتهم» ليصبحوا أكثر التصاقاً بالحزب. يتحدّث عضو المكتب السياسي علي فضة عن هذه الخطوة، في لقائه مع «الأخبار» في مكتبه بجبل محسن، بحضور عدد من الحزبيين. يلفت إلى أهمية «استيعاب الطلاب الذين يمثلون الركيزة لدينا في المكتب الجديد، ونستفيد في نشاطنا هذا من كلمة للرئيس الراحل حافظ الأسد: الثورة هي الانتقال من العشوائية إلى التنظيم». حسن وجلال وأبو مهدي وإيزيل والجبل الصامد، أسماء لشبان التقتهم «الأخبار» داخل المكتب. إنها أسماؤهم الحركية. هؤلاء كانوا يديرون المعركة الإعلامية، عبر الإنترنت، فينقلون إلى شبكات التواصل الاجتماعي الأخبار الميدانية لحظة بلحظة. إيزيل ناشط «فايسبوكي»، وفي الوقت عينه يقاتل في المعارك المسلحة. يقول: «لم نكن نتوقع أن يحصل كل هذا بيننا وبين أهل التبانة، نحن ندرس معاً ونعمل معاً، ولكن بعد عام 2005 واغتيال الحريري بدأنا نشعر بالحقد تجاهنا». يؤكد رفيقه حسن ذلك، ويضيف: «كيف تريدنا أن نشعر وهم دائماً يُسمعوننا ما يمسّ كرامتنا». من يدري، ربما تصبح وجوه هؤلاء الشبان، في معارك لاحقة، صوراً على الجدران، كحال رفيقهم بهاء داوود الذي رحل في إحدى جولات العنف الأخيرة.
يتحدّث فضة عن النشاطات التي قام بها المكتب أخيراً، مثل أحياء مناسبة عاشوراء، بطريقة هادئة، وكذلك مناسبة عيد الاستقلال وغيرها. يقول: «لن نترك مناسبة فيها فرصة لشحذ الهمم والتعلم من قيمها، من أينما كانت، إلا ونستغلها للاستفادة منها». يلفت إلى «كره اللغة الطائفية تاريخياً بين العلويين، وتحديداً في جبل محسن، بغض النظر عن السنوات الأخيرة. لاحظ نحن نحذف كل كلمة عنصرية ومذهبية ترد على صفحتنا الرسمية على الإنترنت، ويا ليت الآخرين يفعلون الأمر عينه». هكذا، يلمس المقترب من تلك البيئة أن العمل جدي على التنظيم، على عكس القوة المسلحة المناوئة في باب التبانة مثلاً. ففي التبانة، يكون لكل مجموعة مسلحة أكثر من «رأس»، وهذا ما يصعّب على الجيش والسياسيين الوصول معهم إلى تهدئة. هناك اختلافات بين من هم في خندق واحد، بينما في جبل محسن قرار واحد. يقول رفعت عيد أوقفوا إطلاق النار فيحصل ذلك.