يدور في أوساط مسيحيي الموالاة، كما في أوساط بكركي، بحث جدي حول المأزق الذي بلغه السعي إلى قانون جديد للانتخابات النيابية. وقد طفا هذا الهاجس أو الأولوية على سطح الاهتمامات، خصوصاً بعد تأجيل الاجتماع الذي كان مزمعاً عقده في الصرح البطريركي، في 29 تشرين الثاني الماضي، والذي كان من المفترض أن يدعى إليه الأقطاب الموارنة، كما جميع النواب المسيحيين في لبنان من دون استثناء. وكان على جدول الأعمال بند واحد: طرح كل مشاريع القوانين المقترحة، ومن ثم مناقشتها حتى استنفاد الآراء حول كل منها، قبل اللجوء إلى تصويت الحاضرين لتبيان الاقتراح الحائز على أكثريتهم، لتبنّيه، والإعلان عن ذلك، كما إعلان التزام كل من القوى المسيحية الحاضرة الإتيان بحلفائها لدعم الاقتراح المتبنى. كان المطلوب إذن من الدعوة حشر الجميع، من أجل حسم الموضوع. ولو بلغ ذلك حد إحراج الأطراف والحلفاء على حد سواء. ولأن المسألة كانت قد بلغت هذا المستوى من المصيرية، تم تنسيق موعد الاجتماع مع بعبدا. بحيث حدد في التاريخ نفسه لجلسة الحوار التي كانت مقررة في ذلك النهار بالذات، قبل تأجيل موعدها هي أيضاً. بحيث كان توافق بين الصرح والقصر على أن ينتهي أقطاب الحوار من بعبدا قبل الظهر، ثم ينتقلون إلى بكركي بعد الظهر، ليخرج الدخان القانوني الانتخابي الأبيض مساء... لكن تلك الأجندة تأجلت. والبعض يقول ألغيت. ويُروى أن بعض المعارضة من غير المسيحيين، كما بعض الجهات الدبلوماسية، همسوا في اذن بعبدا، فوضعت الأخيرة كل ثقلها و«مونتها» على بكركي، لتقنعها بالتأجيل. ويروى أن تلك الخطوة الغربية ــــ الحريرية المصدر، قررت ونفذت بعدما بدا من حركة القوى والمواقف، أن الكفة في الاجتماع المقرر في الصرح البطريركي لن تكون لصالح مسيحيي الحريري. وقد تأكدت تلك الحسابات في شكل نهائي بعدما حسم سامي الجميل موقفه وأبلغه للجميع بأن كتلة حزبه النيابية، ستصوّت في هذا الاجتماع، كما في أي جلسة للبرلمان، لصالح قانون اللقاء الأرثوذكسي...
طار اجتماع الـ 64 نائباً في بكركي إذن. وظل المأزق عالقاً عند قانون الـ60. وفي تصور مسيحيي الأكثرية كما في أوساط بكركي أن كل المداولات الجارية حالياً، كما المناورات من قبل بعض المعارضة حيال رئيس مجلس النواب، تبدو أمام حائط مسدود. فالفريق الحريري حاسم في حساباته: فيتو على أي اقتراح يعتمد النسبية. وبالتالي رفض مطلق لمشروع الحكومة، كما لأي تعديل في احتساب دوائره. ثانياً فيتو حريري مماثل على قانون اللقاء الأرثوذكسي، لأنه يحرر أكثر من 17 نائباً مسيحياً من قبضة الصوت الحريري ــــ السني. وبين الفيتوين المعلنين، يحمل الفريق الحريري ومسيحيوه شعاراً معلناً هو مشروع الدوائر الخمسين، ومشروعاً مضمراً هو تقطيع الوقت والبقاء على قانون الدوحة أو الـ 60 معدلاً.
في المقابل لا تبدو فيتوات فريق الأكثرية أقل عدداً أو تعطيلاً. فهناك فيتو أكثري على مشروع الدوائر الصغرى، أكان في صيغة الخمسين دائرة أم ما يقاربها. بحجة أن تشريح الخبراء لنتائجه المتوقعة أعطى الصوت المسيحي مقاعد أقل من أي صيغة مطروحة أخرى. كما هناك فيتو أكثري مماثل على قانون الدوحة. وإذ يحمل مسيحيو الأكثرية طرحاً معلناً هو «الأرثوذكسي»، يبقون في جيبهم ورقة الحد الأدنى، أو مشروع النسبية، بأي عدد ممكن من الدوائر.
هكذا يرتسم المأزق على مستوى القانون. وهو مأزق تضاف إليه اعتبارات أخرى غامضة لا تقل خطورة. منها على سبيل المثال: أولاً، من يحتمل تأجيل الانتخابات أو تطييرها، ومن يملك المصلحة الكبرى في ذلك؟ ثانياً، من يحتمل خسارة الأكثرية النيابية في الاستحقاق الانتخابي المقبل، خصوصاً في ظل الأوضاع الإقليمية المعروفة، حيث قد تتحول خسارة الانتخابات، من انتزاع الحق في الحكم، إلى انتزاع الحق في الحياة، على طريقة الأنظمة الشمولية المحيطة، كما أنظمة ثوراتها الراهنة البديلة. وأخيراً، هل تسمح الظروف الأمنية والعسكرية بإجراء هذا الاستحقاق، في ضوء تطورات الحرب الأهلية في سوريا؟ وماذا لو لم ينقشع الجواب عن هذا السؤال وما سبقه من أسئلة، إلا مع فتح صناديق الاقتراع، أو خلال ساعاته أو حتى بعده وقبل إعلان النتائج؟
كل هذه المتاهات الاحتمالية تحضر في نقاشات مسيحيي الأكثرية وبكركي. لكنها كلها تنتهي إلى خلاصة واحدة: فلنبدأ بحل مأزق القانون، ثم ننتظر ما سيكون. وفي هذا السياق بالذات، يتوقف البحث عند الحلحلة الجنبلاطية. فسيد المختارة، رغم حساباته المعروفة ومواقفه المعلنة، يبدو في الآونة الأخيرة، صاحب الخطاب الأكثر عقلانية على الساحة اللبنانية. ولأنه كذلك أبلغ إلى من يلزم في الضاحية الجنوبية، ومنها إلى الرابية وبكركي، أن الهامش الوحيد المتاح للخروج من مأزق قانون الانتخاب، هو البحث في تعديل جزئي على قانون الـ 60. المطلوب إذن تعديل يحفظ التأييد الجنبلاطي لهذا القانون، ويقنع مسيحيي الأكثرية وبكركي بتقطيع المرحلة به ومعه، حتى تنجلي أوضاع البلد والمنطقة، ولا ينفِّر الفريق الحريري ومسيحييه، فيدفعهم إلى تطييره أو تطيير الانتخابات. أي أن المطلوب إدخال تعديل على قانون الدوحة، يؤمن في شكل أساسي وأولوي، غموضاً كافياً في مسألة الاحتساب المسبق لمن يحصد الأكثرية في الانتخابات. نوع من غموض خلاق آخر، يستدرج الجميع إلى القبول باللعبة، على قاعدة أن ما بعد نهاية اللعبة سيكون ايضاً محكوماً بتوازنات لا يمكن لأحد كسرها أو الخروج منها أو عليها.
ولأن المسألة كذلك، تتجه أوساط مسيحيي الأكثرية كما بكركي، إلى مواجهة هذا الطرح النهائي، بطرح نهائي مقابل. على طريقة أن موقفنا المبدئي والثابت والذي لا تراجع عنه، هو «الأرثوذكسي». اما إذا بلغت الأمور حد ابتزازنا بمعادلة إما الـ 60 مع تعديل طفيف مقبول بالإجماع، وإما تحميلكم مسؤولية تطيير الانتخابات، فعندها يستعد مسيحيو الأكثرية ومعهم بكركي إلى طرح ورقتهم الأخيرة: قانون الستين، لكن بشرط العودة إلى أصل اتفاق الطائف ومعادلاته وأحكامه. يستعد مسيحيو الأكثرية ليقولوا للآخرين: ألستم أنتم، من الفريق الحريري وحتى وليد جنبلاط، من طبل الدنيا منذ أعوام بضرورة «إزالة آثار عدوان الوصاية»؟ ألستم أنتم من يخوض اليوم ومنذ سبعة أعوام، معركة في سوريا ضد سوريا، بعدما خضتم طيلة عقود، معركتها في لبنان، ضد لبنان واللبنانيين؟ ها هي الفرصة الآن متاحة أمامكم، للعمل جدياً وللمرة الأولى منذ سبعة أعوام، على تصحيح ارتكاب واحد من ارتكابات الوصاية. وذلك عبر إقرار تعديل على قانون الانتخابات، ولو كان وظلَّ قانون الـ 60، يعيد عدد المقاعد النيابية إلى ما كان عليه في وثيقة الوفاق الوطني. وهو عدد ثابت في المحاضر وفي النص، بحيث لا اجتهاد فيه ولا لبس حياله. فيعود المجلس 108 نواب، وتلغى الإضافة التي فرضها غازي كنعان. بمعنى ما، سيقول مسيحيو الأكثرية لمعارضيهم علناً: أنتم لم تتمكنوا من استعادة مفتاح بيروت من الغازي، نحن نعطيكم الفرصة لإعادة ودائعه النيابية إليه، ولو بعد عشرين عاماً. وسيقولون لهم بالتالي فعلاً: تريدون ابتزازنا بقانون الستين؟ فليكن، لكن بشرط وحيد: الطائف.
ودائع غازي كنعان
خفض العدد من 128 نائباً إلى 108، كما كان في النص الأصلي لوثيقة الطائف، يعني عملياً شطب 10 مقاعد نيابية للمسيحيين، ومثلها للمسلمين. مع فارق أن المقاعد المسيحية المطلوب شطبها معروفة ومحددة، لأنها كل ما أضيف سنة 1992، وهي كالآتي: شطب 4 مقاعد مارونية (واحد في كل من في المتن الشمالي، كسروان، طرابلس وراشيا - البقاع الغربي)، 3 مقاعد أرثوذكسية (واحد في كل من المتن الشمالي، الكورة وعكار)، مقعدان كاثوليكيان (واحد في كل من المتن الشمالي وزحلة) ومقعد للأرمن الأرثوذكس في زحلة.
أما مقاعد المسلمين العشرة المطلوب شطبها، فالمطلوب اختيارها من بين المقاعد الـ 19 التي أضيفت سنة 1992. بحيث يُبقى على المقاعد التسعة التي اضيفت لضمان المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وتشطب المقاعد العشرة الأخرى التي أضافتها الوصاية السورية برفعها عدد المجلس من 108 الى 128. فمن المقاعد السنية السبعة التي أضيفت في حينه، تشطب 4 ويتم الإبقاء على 3. علماً أن السبعة موزعة كالتالي: مقعد في كل من بيروت، صيدا، راشيا ــــ البقاع الغربي، بعلبك ــــ الهرمل، طرابلس، المنيه ــــ الضنيه، وعكار. ومن المقاعد الشيعية الثمانية التي أضيفت تشطب 4 ويبقى على 4. علماً أنها موزعة كالآتي: مقعدان في بعلبك ـــ الهرمل، ومقعد في كل من بيروت، بعبدا، الزهراني، صور، بنت جبيل، وراشيا ــــ البقاع الغربي. كما يشطب مقعدان درزيان في كل من بيروت ومرجعيون ــــ حاصبيا. إذ لا يمكن الإبقاء على اي منهما، حفاظاً على التساوي بين المقاعد الدرزية وتلك الكاثوليكية. على اساس أن المقعدين الكاثوليكيين المضافين قد شطبا ايضاً. وهذا ما يفرض الإبقاء ضمن الحصة المسلمة، على المقعدين المضافين للعلويين في كل من طرابلس وعكار.