أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

«تيـار المسـتقبـل».. عنـدمـا يخسـر المـال والسـلطـة

الأربعاء 19 كانون الأول , 2012 04:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,028 زائر

«تيـار المسـتقبـل».. عنـدمـا يخسـر المـال والسـلطـة

وقف النائب نهاد المشنوق ليلقي كلمته على منبر الذكرى الأربعين لاغتيال اللواء وسام الحسن في معرض الرئيس الشهيد رشيد كرامي في طرابلس، وإذ بأصوات تعترض السكون مطالبة بوقوف «أبو العبد» على المنصة. مرة واثنتين وثلاثاً، اضطر النائب البيروتي إلى الخروج عن نصّه، لطمأنة الجمهور «المعاكس» بأنّ محمد كبارة سينضم إلى صفّ الخطباء قريباً. تكرر السيناريو في كل مرة كانت تتناوب فيها القيادات الزرقاء على الوقوف خلف «الميكروفون».

هي «عقدة الشعبية»، تنخر في عظم «الجسم الأزرق»، عشية اقتحام مربع الانتخابات. العلّة ذاتها حوّلت المناسبة إلى استعراض لعضلات اللسان لثمانية خطباء من «التيار» نفسه، جالوا وصالوا في «بحر الضاد»، والمضمون واحد.

يقول أحد خصوم «المستقبل»: «إذا أردت أن تعرف سرّ الزعامة الحريرية للشارع السنيّ، فعليك أن تعرف لماذا رفعت الحكومة اللبنانية في الـ2001، الدعم عن الشمندر السكري»!

كان رفيق الحريري يدرك ماذا يمكن أن يجرّ قرار كهذا على أبناء منطقة البقاع الأوسط والغربي. أكثر من عشرة الآف مزارع كانوا يتّكلون على «الثمرة الأرجوانية» ليعتاشوا من محصول أرضهم، فإذ بهم «صفر اليدين». كان من الطبيعي أن ينطلق هؤلاء في مسيرة البحث عن مرجعية تنقذهم من براثن العوز والفقر. كان الحريري الأب قد قضى على معظم الزعامات المناطقية والتقليدية، إمّا تهميشاً عن السلطة بمساندة عصا الوصاية السورية، وإمّا سحقاً بواسطة صناديق الاقتراع، وإما شراء بـ«الكاش». صار الشارع السني معرّىً، إلا من زعامة رجل الأعمال الصيداوي.

المال والسلطة، ومعهما الإعلام، فعلت فعلها. في عهد الأب، كما الابن. صارت الحريرية هي اللون الطاغي من عكار، الضنية، طرابلس، الطريق الجديدة، البقاع، صيدا، اقليم الخروب، وصولاً إلى مزارع شبعا وشيحين. 

بنى «تيار المستقبل» امبراطوريته بشهادة استحقاقي 2005 و2009، وأسّس «جيشه الأزرق»: أكثر من 3000 بقاعي ألحقوا بما عُرف بـ«أنصار تيار المستقبل»، وأكثر من ألفين غيرهم وظّفوا في الشركات الأمنية، قبل حلّ «التنظيمين» بعد السابع من أيار 2008، نظرا لفشل التجربتين. الإحباط لم يقتصر على المستوى العسكري، بل لحقته سلسلة إخفاقات، ناجمة عن أسباب عدّة: 

أولها الفوضى السياسية، تبدأ بنشاز في الخطاب حيث يغني كل واحد على مواله وعلى الوتر الذي يناسب جمهوره، مع العلم أنّ «المستقبليين» يتحدثون عن فارق في الأدوار والنبرات لا في المضمون. لفؤاد السنيورة مقاربته الديبلوماسية على قاعدة «الابتعاد عن التورط بالوحول السورية»، ولـ«صقور» الكتلة النيابية صواريخهم العابرة للحدود.

الأكثرية تضع استراتيجية ما تقبله وما ترفضه انتخابيا، أما «المستقبل» ومعه «14 آذار»، فلا يملكون استراتيجية الرهان على «قانون الستين»، وعندما يُسألون عن تصورهم للحكومة البديلة رئيسا وأرقاما وحقائب ومهمات، لا يملكون جوابا واضحا!

ثانيها الفوضى التنظيمية، أما أبرز مظاهرها، فتكمن في تعطيل المكتب السياسي (عقد اجتماعه الأول منذ حوالي السنة يوم الجمعة الماضي برئاسة نائب رئيسه المسؤول التنطيمي سمير ضومط). هناك أيضا النقص في الكوادر المتفرغة وصاحبة الخبرة، الحساسيات الداخلية بفعل التنافس بين القيادات الزرقاء إلى حدّ الاحتراب والتشطيب.

ثالثها وقف حنفية المال، بما تمثل من ثقل في التأثير بفعل المساعدات التي كانت تقدّم إلى الجمهور، لا سيما معظم قيادات «التيار» غير المؤدلجة التي تعتبر أن «الخدمة» هي صلة الوصل مع الجمهور، وبانتفائها تتقطّع كل الجسور.

إذاً، بعدما كان «تيار المستقبل» الآمر الناهي في بيئته، ومصدر القوة والبحبوحة، صار العمل في صفوفه من «حواضر البيت». تسلل «الهمّ والنق» إلى صفوفه، بفعل الفقر الذي انتشر كالفطر: عجز قيادته عن دفع ديون انتخابية مستحقة عليها، التأخير في دفع إيجارات المكاتب الحزبية في المناطق، التوقف عن تقديم المساعدات المالية، محدودية إمكانيات المنسقيات، وغيرها من عوارض الانكماش المالي، وآخرها الامتناع، منذ ثلاثة أشهر، عن دفع رواتب الموظفين في «التيار»!

لم تقف الأزمة عند هذا الحدّ. صحيح أنّ «القلّة» تولّد «النقار»، لكن السلطة لها أثمانها أيضاً: فالجلوس إلى جانب «الشيخ»، يجلب «السعد» لأنّ النفوذ مغرٍ، لكنه مكلف. الطامحون كُثر، ودفتر المواصفات متواضع في شروطه. لذا تعجّ الحلبة بالمتبارين، الذين راحوا يخوضون معارك «التحطيم» قبل الوقوف أمام اللجنة الفاحصة. خلال السنوات الثلاث الماضية، شهد «التيار» حروباً «صامتة» بين أبنائه، توسلاً للمواقع القيادية. وخلال الأشهر الأخيرة انطلقت «المباريات التمهيدية» للانتخابات النيابية، ولا تزال مستمرة.

حالتان طفتا على وجه الماء، بيروت والبقاع الغربي، ما استدعى إجراءات جذرية لتصحيح الاعوجاج، بعدما طفح كيل الخلافات على أرض العاصمة، والخزان البقاعي. وهنا تدخّلت القيادة المركزية. شعرة واحدة ربطت بين الحالتين: إقصاء الوجوه «العسكرية» (الضباط المتقاعدين) عن واجهة العمل السياسي، لمصلحة واضعي «ربطات العنق».

للعاصمة روايتها التي أملت على قيادة «سبيرز»، استبدال العميد المتقاعد محمود الجمل بالمهندس بشير عيتاني: سوء أداء تنظيمي في إدارة المنسقية، تزامن مع خلاف وقع بين منسق العاصمة وعدد من الكوادر الزرقاء، على خلفية القفز فوق صلاحياتهم و«نفوذهم» (اثنان منهم من الطريق الجديدة)، إلى حد دفعت بهم إلى الشكوى أمام «الباب العالي» (سعد الحريري)، ولكن من دون جدوى. ووصلت بهم إلى لحظة طرق أبواب الخصوم طلباً لـ«اللجوء السياسي»، بعدما تقدّموا باستقالاتهم (قبلت ثلاث منها). 

بلغت الأصداء مسامع القيادة المستقبلية، التي استعانت بنفضة تنظيمية شاملة، بعد «التضحية» بالعميد المتقاعد، مع العلم أن المنسق الجديد يوصف بأنّه جزء من فئة «الحردانين» الطامحة نيابيا. 

أصلاً، في العاصمة، ليس سهلاً أن تكون رمزاً سياسياً وفق منظور العائلات التقليدية. اختلفت الظروف كلياً وتبدّلت الأولويات. أهلها عادوا إلى مربع البداية، تلك التي يقارنون فيها سعد الحريري بوالده رفيق الحريري. لا تغريهم اللقطات الهوليوودية، يستفزهم التردّد واللعب على وتر الكلام والألوان كما قرار اقتحام «السرايا الكبيرة» بقوة ضاربة «قواتية».

التغيير في الموقع التنظيمي الأول بيروتيا، «كان حتمياً» وفق أوساط «مستقلبية»، بسبب الفوضى التي كانت قائمة، لكن الإشكال الذي وقع سرّع القرارات ليس أكثر. فالمطلوب إحداث صدمة إيجابية في جسد «التيار» الذي يعاني من قصور على أكثر من مستوى. على هذا الأساس، لم تكن العاصمة «يتيمة» في إجراءاتها. طرابلس شهدت توسيع مكتب منسقيتها بعناصر جديدة على قاعدة توسيع المهام للإحاطة بكل قضايا المدينة، في ما يخص العائلات، الجمعيات الأهلية، الانتخابات...

في البقاع الغربي، علت الشكوى من أداء العميد المتقاعد محمد قدورة، الذي أُخذ عليه أسلوب إدارته للمنسقية على طريقة «رئيس المخفر»، فضلاً عن التشكيك بتسريب أخبار «الدائرة الحزبية» إلى أجهزة مخابرات خارجية. حلّ المحامي الطامح للنيابة حمادي جانم محله، وهو الممتلئ قناعة بقدرته على خلق جو بقاعي حوله بسبب مقبوليته من ناسه بعكس قدورة.. وصولا الى احتلال أحد المقعدين النيابيين، وهو الأمر الذي يمكن أن يهدد تجربته التنظيمية بسبب «المزاركة» الصامتة الحاصلة بين «الزرق».

على سبيل المثال لا الحصر، زياد القادري يجيّر الخدمات الرسمية في رصيده الشخصي، من دون التنظيم. جمال الجراح يدبّر أموره مع الناس على «الطريقة الجراحية». محمد رحّال يحفر لنفسه موقعاً، ويفترض أن يكون من «جعبة» واحد من النائبين. وعليه يصبح المنسق الجديد الحلقة الأضعف في السلسلة المفككة أصلا.

بالنتيجة يمكن إيجاز واقع «التيار الأزرق» كالآتي: شحّ مالي (يتردد أنّه سيتحسن في بداية العام)، عراك داخلي، والاتكال فقط على الخطاب المذهبي التحريضي. حتى ظاهرة الإفطارات توقفت. أما حصص المساعدات الغذائية التي يقول «المستقبل» إنه يوزعها على النازحين السوريين، فلا أثر لها. الفعل لبعض الفاعليات والجمعيات الإنسانية (بعضها يدور في فلك «المستقبل») التي تقوم بالمهمة على حسابها الخاص، والصيت لـ«الحريريين».

يقال إن «حزب الله» قام بواجبه في هذا الشأن الانساني في البقاع، وكذلك النائب السابق عبد الرحيم مراد وبعض مشايخ المنطقة، ولكن لم تخرج «كرتونة» واحدة من «المخازن الزرقاء»، كما يقول الخصوم، «إلا اذا اعتبروا «صقرهم» البقاعي يقوم بالمهمة بالنيابة عنهم من تركيا (توزيع الحليب والخيم والبطانيات على النازحين)!!!

في المقابل، فإن مسلسل الهزات الذي يعيشه «المستقبل» والذي يزيد من إحباط ناسه، لا يرتد ربحاً على خصومه. هؤلاء يحاولون استمالة «الحردانين» واحتضان من يدق بابهم من الناقمين على «الحريريين».. من دون أي مجهود إضافي.

أما في بيروت، فإن تجارب «الأنتي مستقبل» لم تحقق أي تقدّم، ولو أنّ بعض الناقمين على «قيادة الشيخ» نقلوا تجربتهم إلى ماكينات خصومه الانتخابية.

واحدة من أبرز أزمات قيادات المعارضة السنية في العاصمة، أنها غير قادرة على مجاراة «الهوليوودية الحريرية» ولا تقديم نماذج بديلة. ثاني مآزقها هو خطابها «الخشبي» الذي لا يحاكي هواجس الشارع السني، أما ثالثها فهو الخلاف بينها على الموقع. الطامحون كثر والمناصب المتوافرة تهبط بـ«القطارة» والقدرة على تجديد وجوهها معدومة. رابعها الحاجة إلى زعامة بيروتية قوية، إلى قيادة مركزية في العاصمة، المدينة التي قصدها رفيق الحريري طمعاً بالزعامة.

صحيح أنهم يحافظون على «الستاتيكو» القائم، لكنهم عاجزون عن ربح ما يخسره «المستقبل» أو يتسلل من بين يديه، لأن هناك من يكسب على طبق من فضة، ومن دون تكليف نفسه عناء التعب: المجموعات السلفية.

لم يعد الحديث عن «الخلايا الإسلامية النائمة» خطاباً تخويفياً كما تدعي المعارضة أحياناً. الوقائع صارت دليلاً لا يقبل الشك. خرجت هذه «الحلقات» عن سيطرة «العباءة الزرقاء»، لا بل عن كل العباءات. صارت «دكاكين» مستقلة في البقاع، عكار أو طرابلس، لها «أمراؤها» و«أجنداتها». في مجدل عنجر، صار الشيخ عدنان إمامي مقصداً للسلفيين. في كثير من مساجد المنطقة مجموعات منغلقة على ذاتها، وتكوّن نفسها على «خميرة» الخطاب المتطرف. يُدلّ عليها بالإصبع. الزمن زمنها، وبالأحرى، «ربيعها». وفي خطابها كل الملح والبهار المطلوب جماهيرياً.

هذه المجموعات موضع تنافس من جانب من يعتبرون أنفسهم «كبار الإسلاميين»: الشيح أحمد الأسير يقوم بزيارات دورية للبقاع للقاء بعضها وجذبها إلى ملعبه. القيادات السلفية الشمالية التاريخية تضع نصب عينيها نقل مركزية قرار السلفيين إلى طرابلس بدلا من صيدا.

على الرغم من ذلك، يتسلّح «المستقلبيون» بالنَفس التفاؤلي على قاعدة أنّ هذه «الظواهر السلفية» عنترية، ممزّقة، تفتقد محورية الإدارة والقرار، كما المشروع السياسي الواضح... «فلا خوف منها، لأنّها ستكون آنية وعديمة التأثير»، مع العلم أنّ بعض الأصوات الزرقاء تدعو إلى احتضان هذه الحالات واستيعابها، بحجّة أنّها تأكل من صحن «تيار المستقبل».

تشرح قيادات «زرقاء» أن الموجة السلفية «تعبّر عن مخاوف تجتاح الوجدان السنيّ، وتحاكي هواجسه»، لكنّها لا تتعدى «فشة الخلق» وردّة الفعل، التي سرعان ما تنتهي، من دون أن تترك لها أثراً جدياً. لذا من المستبعد أن يكون لها ترجمة عملية في صناديق الاقتراع. وفق «المستقلبيين»، فإن بعض قبضايات الطريق الجديدة ممن يتناغمون مع نداءات إمام مسجد بلال بن رباح، يشاركونه أحياناً اعتصامه البيروتي، ولكن سرعان ما يستعيدون «شاراتهم» الزرقاء فور عودتهم إلى مقارهم.

واقع مأساوي يدرك «تيار المستقبل» مدى سوداويته. يعتقد أنّ بإمكانه ولو متأخراً أن يضع العلاجات المناسبة قبل أن يقتحم «معمودية» نار الانتخابات النيابية. يعدّ خطة تنظيمية متكاملة لمداواة مواقع الوهن التي صارت كثيرة وفي معظمها ناجمة عن تقاعس القيادات والنواب. ترتكز على نفضة جماعية للمسؤوليات، بهدف تنشيط التيار واستقطاب المناصرين. 

بالمال والسلطة ربح «المستقبل» الشارع السني. وبخسارتهما تسلل الترهل إلى جسمه. هل ستعوض الخطة التنظيمية المدعّمة بخطة مالية، ما أفسده زمن «الربيع العربي»؟ حتى الآن، لا يزال موقف السعودية، لغزاً. تحمي حركة سعد الحريري السياسية من جهة، وتحرمه من المال من جهة أخرى.


Script executed in 0.20406103134155