عفيف دياب
قصص كثيرة نسجت في الشهور الماضية بين بلدة عرسال وضيوفها الآتين من بلاد «الموت» السورية. البرد ليس إلا إحدى الحكايا التي تروى خلف موقدة صامتة، يبحث أصحابها عن لهب، في جرد كان قبل قرون خمسة غابات تسرح فيها الأسود. أمعنت الفؤوس قطعاً لقتل البرد وطرد الوحوش المفترسة من دون أن تنجح في التغلّب عليه. «الوحش الأبيض» الزاحف اليوم نحو عرسال من جردها الشرقي، قطع أوصال الشعب الواحد على جانبي الحدود الوهمية.
لم تعد أم أيهم الهاربة من آلة الموت الأحمر في مدينة حمص تجد «عودة» حطب في جرد محاصر بنار دبابة ساهمت في دفع ثمنها، و«جبل» أبيض هبط من السماء رافضاً انتظار لهب مدفأة الأم الثكلى لتحمي اولادها الاربعة من صقيع «جنرالات» الأرض والسماء.
حكايات أم أيهم مع البرد في عرسال تشبه حكايات العراسلة. إنهما وجهان لبرد واحد وبلاد واحدة في رسالة الفقر الخالدة. تقص أم ايهم وجع حمص وفقدانها لمعيل انقطعت اخباره منذ سنة. تنتظر «بون» المازوت من «الأمم المتحدة» لتشتري به طعاماً. فبضع ليرات من «بون» نفط العرب الممنوح لأم أيهم بعد ذلّ، تهضمه الأمعاء الخاوية خبزاً وحليباً وعدساً وكشكاً.
أكثر من 10 آلاف نسمة سورية تعيش اليوم في عرسال عند ضفافها الجردية. وينتشر حوالى 6 آلاف في مشاريع القاع، حيث نصبوا خيامهم بين البساتين والكروم مشكلين سلسلة بشرية واحدة من الجوع والقهر تمتد من حمص وريفها إلى حلب وتعبها ودمشق وريفها المنكوب. يتحدث العراسلة بألم عن أحوال أقرانهم السوريين، وعن مادة المازوت التي أصبحت كالذهب اليوم. لم يعد العراسلة يجدون في المازوت السوري معيناً لهم على قتل البرد القارس. لقد ولى زمن التهريب والأسعار البخسة. «انقلبت المعادلة» يقول عبدو فليطي الذي «نصب» مدفأة على الحطب في مطبخ بيته غير المنجز: «كنا نعتمد على المازوت السوري الرخيص لتخزين ما نحتاجه في فصل الشتاء. أما اليوم فبات المهربون ينقلون المازوت من لبنان الى سوريا، إن وجد». موضحاً أن «الصهاريج اللبنانية لم تعد قادرة على اجتياز جرد عرسال إلى الداخل السوري بسبب تراكم الثلوج».
برد الشتاء القارس في عرسال ومشاريع القاع، أدخل اللاجئين السوريين في أتون «سمسرات» الهيئات الدولية المانحة والمكلفة بمتابعة قضيتهم الإنسانية. فـ«بونات» المازوت الممنوحة للعائلات اللاجئة لا تكفي مدة شهر للتدفئة، إذ خصّص لكل أسرة (مهما بلغ عدد أفرادها) بونات مازوت بقيمة 100 دولار في الشهر الواحد. ويقول السوري اللاجئ من القصير إلى عرسال أبو خالد ز. أنه يحتاج إلى إشعال أكثر من مدفأة في المنزل القاطن فيه لمواجهة البرد القارس. موضحاً أنه لا يمكن حشر أفراد أسرته التسعة في غرفة واحدة. كما أن البرد القارس في عرسال «يلزمنا باشعال المدفأة على مدار الساعة» وإن كان يشعل «الصوبيا» ليلاً لمدة لا تتجاوز الساعتين فقط.
حظوظ اللاجئين السوريين في عرسال تبقى أفضل من أقرانهم الذين لجأوا إلى مشاريع القاع او إلى البقاعين الأوسط والغربي. فالهيئات الدولية والعربية المانحة، درست الوضع المناخي و«وجدت طقس عرسال بارداً جداً مقارنة بمناطق بقاعية أخرى». يقول أحد الناشطين في أعمال الاغاثة وتقديم المساعدات للاجئين، إن منظمته وفرت كميات من المازوت وبطانيات وفرشاً وملابس صوفية، وإنهم أخذوا في الاعتبار مناخ عرسال لذلك «رفعنا منحة المازوت إلى ما تعادل قيمته مئة دولار في الشهر». هذا الإجراء لم يطل لاجئين في مناطق بقاعية أخرى. فقد خصصت بونات «عربية» للاجئين في البقاع الغربي بما يعادل ليترات مازوت بقيمة خسمة آلاف ليرة لبنانية فقط في اليوم الواحد. فيما لا يجد المقيمون في مشاريع القاع طرقاً لـ«صرف» بوناتهم الورقية مازوتاً، لعدم قدرتهم على التوجه إلى محطات وقود محددة لهم تقع خارج منطقة مشاريع القاع، حيث لا يمنع اللاجئ من اجتياز نقطة العبور اللبنانية الرسمية لعدم حيازته اوراقا رسمية تؤكد خروجه بشكل شرعي من سوريا.
يقول السوري النازح من قريته المتاخمة للحدود اللبنانية جوسية بعد تدمير منزله، إنه لا يقدر على الخروج من مشاريع القاع حيث نصب خيمة له ولأولاده الاربعة، لإحضار المازوت من جديدة الفاكهة. موضحا أن حصته الشهرية من المازوت لا تتجاوز 100 ليتر (حوالى 5 تنكات)، وعليه أن يجتاز مسافة 20 كلم لإحضار الكمية «لكني لا أستطيع المغادرة لأني لا أملك بطاقة عبور رسمي». ويلفت إلى أن معظم اللاجئين في مشاريع القاع اجتازوا الحدود عبر مسالك ومعابر غير شرعية نتيجة الهرب من القصف أو تدمير منازلهم المتاخمة للحدود مع لبنان. ويكشف الضابط المنشق (برتبة نقيب) من الجيش السوري، أبو الوليد، الذي يقيم في المخيم مع زوجته وأولادهما الثلاثة أن «أخوة السلاح» يوفرون له يومياً صفيحة مازوت من دبابتهم المرابطة على الحدود مع لبنان قرب مشاريع القاع. ويوضح أن رفاقه غير المنشقين يتصلون به ويخبرونه أين وضعوا له تنكة المازوت، فيذهب ليلاً لإحضارها ويتقاسمها مع جيرانه في المخيم.
في مشاريع القاع أقام لاجئون سوريون مخيماً داخل بستان مشمش بعد حصولهم على خيم من هيئة دولية مانحة لا تزورهم إلا ما ندر، حيث يقطن في مخيم «الشوادر» أكثر من 7 عائلات من مدينة حمص (47 فرداً). ابتدع هؤلاء حلاً لمواجهة البرد القارس والزاحف من الجرود العرسالية العالية. ويقول الحاج أبو جمال (74 عاماً) إنهم نصبوا خيمة كبيرة ووضعوا بداخلها مدفأة يشعلونها نهاراً من بقايا حطب بساتين الأشجار المثمرة «ليلاً يعود كل واحد منا الى خيمته الأساسية ملتحفاً البطانيات بدل إشعال مدفأة مازوت». كاشفاً أنهم يضطرون إلى بيع بونات المازوت إلى أصحاب المحطات أو تجار المازوت لعدم قدرتهم على صرف الكمية المخصصة لكل عائلة من جهة، ولأن احتياجاتهم المعيشية والغذائية ألزمتهم استبدال بونات المازوت بأموال لشراء الطعام وملابس الشتاء والأدوية».
كذلك قطن بعض اللاجئين السوريين في عرسال وأخواتها، جرد البلدة المشاغبة منذ أن وجدت، داخل غرف زراعية في بساتين الكرز والمشمش (يراوح ارتفاع الجرد عن سطح البحر ما بين 1400 و1700م. وأعلى موقع عرسالي يصل الى الفي متر). يقول أبو مهران (46 عاما)، السوري النازح من بلدة النبك في ريف دمشق، إن صديقه العرسالي منحه غرفة في الجرد للاقامة فيها «وعندما بدأ الثلج نزلت الأولاد على عرسال». وأكدّ أن معظم اللاجئين المقيمن في الجرد العالي «نزحوا» إلى داخل عرسال أو إلى مشاريع القاع مع بدء تساقط الثلوج. أما حصته من المازوت، فيتقاسمها مع جاره العرسالي كرد جميل على منحه غرفة للسكن داخل البلدة و«مو بس المازوت، كمان مناكل كشك سوا».
تهريب المازوت... بالدبابات؟
«أفل» مجد تهريب المازوت بين لبنان وسوريا. هذا ما يشعر به سكان القرى اللبنانية الحدودية. فبعدما كان مازوت سوريا بديلاً رخيصاً عن المازوت اللبناني المرتفع السعر، جعلته الأحداث في سوريا مادة «أغلى من الذهب». يقول أحد المهرّبين اللبنانيين إن أكثر من 20 صهريجاً كانت تعبر الجرود في عرسال محمّلة بالمازوت السوري، أما اليوم فقد أصبح التهريب معكوساً. إذ يهرّب المازوت اللبناني إلى الداخل السوري بأسعار خيالية، ولكن الثلوج المتراكمة قطعت معابر التهريب. حتى «بونات» المازوت الدولية الممنوحة للاجئين تباع بأغلبيتها إلى مهربين يدخلونها الى سوريا.
هذا التهريب العكسي اليوم، صورته غير مكتملة. فقد كشف مهرّبون أنهم يشترون مازوتاً سورياً من ضباط في الجيش السوري يرابطون بدباباتهم وآلياتهم العسكرية على الحدود. ويقول إن هؤلاء الضباط يتقدّمون بدباباتهم نحو خط الحدود مباشرة حيث يجري تفريغ كميات من خزانات الدبابات في صهاريج صغيرة تمهيداص لإعادة بيعها للداخل السوري.