لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الرابع والثلاثين بعد المئتين على التوالي.
أن تفرض الدولة خطتها الأمنية، على سجونها، فتلك خطوة جريئة جدا، ولو كانت تحمل في طياتها مفارقات متناقضة.
نظريًّا، أريدت للسجون وظيفة عقابية ـ إصلاحية ـ اجتماعية، لكن عمليا، طغت في معظم البلدان المفاهيم الدموية بأبشع صورها، بما فيها تلك التي تنتمي إلى «العالم الأول»، والنماذج كثيرة من «الكاتراز» إلى «غوانتانامو».
في لبنان، انقلبت الأدوار، صار السجن من بين أخطر غرف العمليات الإرهابية في المنطقة، وصار نفر من السجناء فيه، «أمراء» للإرهاب والتعذيب، يُصدرون الفتاوى بالقتل والإعدام وتفجير السيارات والأحزمة الناسفة.. ويصدرونها إلى سجون لا إلى بلدان أخرى. «أمراء» ينظمون مجموعات ويصدرون أوامرهم بتنفيذ جرائم ويهددون رؤساء ووزراء وقضاة وضباطا ورجال دين وسياسة. «أمراء» يديرون عصابات الخطف والفدية وسرقة السيارات والاتجار بالمخدرات وغيرها من الموبقات.
في لبنان، انقلبت الأدوار، صارت الدولة بهيبتها وواجباتها وسلطتها ومؤسساتها هي السجينة، وصار البعض من السجناء هم «الدولة» الفعلية. لهم قوانينهم وتنظيمهم و «أجهزتهم» وشبكة اتصالاتهم وتقنياتهم العالية و «وجباتهم الساخنة» ومحاكمهم المستقلة.
تراكم الشواذ في سجن رومية منذ سنوات طويلة، خصوصا بعد العام 2008. القضاء المعطل والمقصر في واجباته من جهة، و«الأمن المنخور» بالفساد من جهة ثانية، والواقع السياسي المريض بالتحريض والمذهبيات من جهة ثالثة، أفرز كل ذلك واقعا مشوها غير مسبوق في تاريخ لبنان.
طفحت السجون بما يفوق قدرتها على الاستيعاب، ثلاثة أضعاف وأكثر. صارت الغرفة المخصصة أصلا لخمسة سجناء تضم عشرين وأكثر. تردّت الخدمات وبلغت الإهانات حدود التعامل مع معظم السجناء «العاديين» بوصفهم «أشباه بشر»، فصار لـ«القطاع الخاص» حضوره وأربابه في السجن، وصارت منظومة الفساد المعششة حتى في بعض الأمن والقضاء، أقوى من كل محاولات هزّها أو كسرها.
وكلما اقترب موعد محاكمة، تدخلت المرجعيات، فتتراكم الملفات وتتأجل الجلسات، وصار البعض يخشى الخروج من السجن، لأن ما يتوفر له من ظروف و «تسهيلات» لن يكون سهلا عليه «الفوز» به، بحماية الدولة، وسيكون صعب المنال خارج السجن، أو قيد الرصد والمتابعة في أحسن الأحوال.
تقنيات رسمية.. أهملت!
في غضون أربع سنوات هضم السجن عشر محاولات فرار، فشل معظمها، وكادت تنجح في إحدى المرات، عملية فرار جماعي عبر استخدام متفجرات من صنع محلي بمادة «الكاربير» لفتح ثغرات داخل السجن، وأحرقت المباني مرات عدة، وفتحت الغرف بعد أن خلعت أبوابها كلها في المبنى (ب)، وجعل تنظيما «النصرة» و«داعش» تحرير «السجناء الاسلاميين» هدفا مركزيا لهما، وكادت صفقتا مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا تتعثران عندما وضع هذا الشرط على طاولة المفاوضات.
وها هي القصة نفسها تتكرر في سياق مفاوضات الإفراج عن العسكريين الـ25 المخطوفين. أكثر من ذلك، تحوّل سجن رومية ومحيطه إلى قلعة أمنية، نتيجة التهديدات المتتالية بالتفجير سواء بواسطة شاحنة أو سيارة أو عملية كبيرة تشمل تفخيخ دراجات وسيارات وشاحنة ضخمة يقودها عدد من الانتحاريين!
والسؤال الذي ظل يتكرر طوال سنوات، لماذا تعجز الدولة عن تشغيل أجهزة تقنية متطورة كلفت الخزينة اللبنانية ما يزيد عن 650 الف دولار، هدفها التشويش على الهواتف الخلوية وشبكة الإنترنت، خصوصا أن موقوفي «داعش» و «النصرة» و «القاعدة» بمسمياتها المتعددة، يملكون تقنيات لا تملكها أجهزة أمنية، تجعلهم على تواصل يومي مع منتديات «قاعدية» في أفغانستان والعراق وباكستان وسوريا والشيشان ودول الخليج، بما في ذلك التواصل المباشر، مع أمير «النصرة» أبو محمد الجولاني وأمير «داعش» أبو بكر البغدادي؟
ولقد شكل تبرير أحد العسكريين الموقوفين أسباب تورطه بإدخال عشرات الأجهزة الخلوية للموقوفين الإسلاميين، قبل أكثر من سنتين، إشارة واضحة إلى مدى النفوذ الذي يجعل بعض «الأمراء» يتحكمون بالترقيات والمناقلات العسكرية نفسها، مستفيدين من واقع الفساد الذي سهل لـ «مافيا الدراسات والتلزيمات» أن تفعل ما فعلت في سجن رومية قبل نحو سنة ونصف السنة تقريبا.
غاب القرار السياسي، فاستمر الغلط في سجن يتسع لنحو ألف ومئتي موقوف، فكيف وهو يغص بنحو ثلاثة آلاف اليوم، بينهم المئات من الموقوفين الخطرين بكل معنى الكلمة. وظل السؤال يتكرر منذ سنوات: متى تحزم الدولة أمرها، فتمنع «الانفجار الكبير»؟
المشنوق.. و «ساعة الصفر»
يسجل لوزير الداخلية نهاد المشنوق، أنه في أول تصريحاته بعد تأليف حكومة الرئيس تمام سلام، حدد أولويات ثلاثا، بينها أولوية معالجة أوضاع سجن رومية المركزي، وقد حدد «الساعة الصفر» مرات عدة، بينها لحظة معركة عرسال ووقوع العسكريين اللبنانيين قيد الأسر، لدى تنظيمي «داعش» و «النصرة»، فصار التوقيت مرتبطا، بشكل أو بآخر، بمجريات التفاوض، خصوصا أن الخطة الموضوعة كانت تلحظ حتمية سقوط الدم وبالتالي تحمل الكلفة السياسية والأمنية لخيار هكذا عجز عن تحمله كل وزراء الداخلية وقادة قوى الأمن الداخلي من قبل.
وكان لافتا للانتباه أن المشنوق قرر تجاوز اعتراضات بعض الوزراء سواء من داخل «المستقبل» أم من «الوسط السياسي»، وأعطى توجيهاته لقيادة قوى الأمن الداخلي، بإعداد خطة متكاملة تتضمن كل الخيارات والاحتمالات، طالبا أن يقتصر تنفيذها على «المعلومات» و «الفهود»، وبإشرافه شخصيا.
وقد استفاد وزير الداخلية من الغطاء السياسي الذي منحه إياه المجلس الأعلى للدفاع ورئيس الحكومة تمام سلام، فقرر أن يحتفظ لنفسه، بالتوقيت، مخافة أن يؤدي التسريب إلى انتفاضة مسبقة تقطع الطريق على هذه العملية الفائقة الخطورة والحساسية.
وقعت جريمة جبل محسن، فقرر وزير الداخلية أنه التوقيت المناسب للتنفيذ، خصوصا أن عملية تعقب الاتصالات وتحليلها أظهرتا أن جزءا كبيرا من العملية التي تمت في جبل محسن، مساء يوم السبت الماضي، أديرت من المبنى (ب) في سجن رومية.
وفور خروجه من الاجتماع الأمني الذي عقده، الرئيس سلام، في دارته في المصيطبة، ليل أمس الأول، أبلغ المعنيين بجعل فجر الاثنين (السادسة والنصف صباحا) ساعة الصفر، وتم وضع قيادة الجيش في أجواء العملية (تم تشكيل غرفة عمليات بأمرة العميد شامل روكز).
وبالفعل، نفذت العملية فجرا «بطريقة محترفة ومتقنة من الدرجة الأولى» على حد تعبير وزير الداخلية، و «من دون أي نقطة دماء»، ونجح 190 ضابطا وعنصرا من «المعلومات» و «الفهود» في نقل 866 سجينا من المبنى (ب) إلى مبنى جديد محكم الضبط، ومجهزة غرفه بأبواب حديدية.
الأولوية الآن.. للبقاع الشمالي
وقال الوزير المشنوق لـ «السفير» إن الموقوفين سحبوا إلى المبنى الجديد فقط بثيابهم، ومن دون أية ممنوعات سواء أكانت هواتف خلوية أو غيرها، وأضاف: «ستجري عملية تأهيل شاملة للمبنى (ب) خلال ثلاثة أشهر، وبعد ذلك، نعيد السجناء إليه».
وردا على سؤال، قال المشنوق إنه إذا دخل جهاز هاتف واحد إلى المبنى الجديد للموقوفين «سيتم قص رأس الضابط أو العسكري المسؤول عن ذلك».
وشدد وزير الداخلية على أهمية استمرارية الإجراءات، وقال إن الجهاز الرقابي (التفتيش) في قوى الأمن الداخلي سيعطي أولوية لسجن رومية، ولن نسمح بعد الآن بتكرار تجاوزات أدت إلى ما وصلنا إليه قبل عملية الأمس.
وأشار المشنوق إلى أنه قدم عرضا أمام جلسة مجلس الوزراء حول وضع سجن رومية وباقي السجون، وقال: «أبلغتهم بصريح العبارة أن وزارة الداخلية لم تعد تتحمل بقاء وضع السجون على حالها (تغص بحوالي 8000 موقوف بينما قدرتها الاستيعابية لا تتجاوز 2500)».
وطالب المشنوق بتوفير مبلغ 60 مليون دولار لإنجاز خطة السجون، على أن تتولى الحكومة رصد نصف هذا المبلغ ويتولى هو شخصيا عبر علاقاته الداخلية والخارجية تأمين المبلغ المتبقي..
وقرر مجلس الوزراء تكليف وزيرَي الداخلية والمال بالاتفاق على الأمر والعودة إلى مجلس الوزراء لاحقا بصيغة محددة.
وردا على سؤال قال المشنوق لـ «السفير» إن التماسك الوطني هو أول وأهم وسائل المواجهة مع الإرهاب «حفظا للبلد أولا.. ولاحقا نتخانق مع بعضنا البعض». وشدد على أولوية متابعة الحوار (مع «حزب الله»)، وقال إن الأولوية اليوم هي للخطة الأمنية لمنطقة البقاع الشمالي.
«النصرة» المربكة.. تهدد!
وشكلت عملية تشغيل جهاز التشويش على الخلوي وقطع كل الاتصالات عبر شبكة الإنترنت، العنصر الأكثر فعالية، خصوصا أن «النصرة» و «داعش» لطالما هددا بردة فعل عنيفة إذا تم ذلك، ولاحقا صارا يبتزان الدولة بالتلويح بقتل العسكريين، وهو ما حصل، أمس، إذ إن «النصرة» سارعت إلى إحالة ملف «الأسرى اللبنانيين» إلى ما تسمى «اللجنة القضائية» لبت مصيرهم، وذلك بعد أن أعلن حساب «مراسل القلمون» بعد ساعات من بدء العملية الأمنية عن «مفاجآت في مصير أسرى الحرب لدينا»، ثم نشر بعد ذلك صورة للعسكريين، وهم منبطحون أرضاً بينما توجه إليهم البنادق من قبل خمسة عناصر من «النصرة» مكررا قوله: «من سيدفع الثمن»؟
وأفاد مراسل «السفير» في دمشق عبدالله سليمان علي بأن تنفيذ عملية رومية «أفقد «النصرة» توازنها وهي ترى انقلاب السجن من ورقة لها إلى ورقة عليها من دون أن تستطيع القيام بأي شيء، وربما هذا ما اضطرها إلى محاولة اللعب على أعصاب أهالي العسكريين عبر التهديد باتخاذ إجراءات قاسية بحقهم بغية دفع الأهالي للنزول إلى الشارع ومحاولة تشكيلهم الصوت المعترض على ما يجري في رومية».
انتهت «إمارة رومية»، في سياق قرار لبنان الرسمي بالانخراط في معركة مكافحة الإرهاب، لكن العبرة، كما قال وزير الداخلية، في الحفاظ على هذا الإنجاز لا سيما عبر تفعيل الرقابة على الضباط والعسكريين المولجين حماية سجن رومية، لضمان جدية الخطة واستمراريتها وفاعليتها، لأنه ليس خافيا على أحد أنه في حال حصول أي نوع من أنواع التراخي والإهمال، يمكن أن تولد من رحم المبنى الجديد (الموقت) غرفة عمليات جديدة لإدارة الإرهاب (التفاصيل ص3).جريدة السفير