ابريق القهوة العربي ومعه الجمر الملتهب والفناجين العربية هي عدة القهوجي، التي كادت أن تصبح في خبر كان، ولكن المثل يقول "من فات قديمو جديدو ما يفيد" ، وها هي تعود وبقوة، فارضة سياسة اقتصادية جديدة على دولة لم تعن يوما على بالها تنمية المهن الصغيرة، بل لم يخطر في سياستها ان تفتح افق عمل لجيل من الشباب كي يغير وجهة البلد من اقتصاد ضعيف الى آخر قوي لا تهزه مراجيح التجاذبات السياسية.
في ازقة النبطية الضيقة يعبر أبو سعيد بإبريقه النحاسي وفناجينه مناديا "قهوة عربية أصيلة"، في هذه الأزقة التي يعبرها أبو سعيد كل يوم تعلم ان يكون مراسلا محليا لأخبار المدينة، وتعلم أيضا أن يتحدى الظروف والأهم أن يتعالى على تهميش حكومته لمهنته الذي يجاهر علنا انها "مهنة الشرفاء".
خسمة عشر عاما أمضاها باحثا عن لقمة عيشه في مهنة "القهوجي" لم يكلّ أو يتأفف من ظلم الأيام، عاندها واضعا ميثاقا جديدا لمهنة كادت أن تحتضر بيد انها تحولت الى وجهة العديدين للعمل هربا من البطالة، ما اعطاها هوية صمود إضافية وإن غابت عنها ضمانة الدولة الصحية والإجتماعية، متسلحا بـ "الإتكال على ربه".
العم ابو سعيد تخطى السبعين ولا يزال يعمل لعدم وجود ضمان شيخوخة في لبنان، ولا اهتمام بالكبار عدا انه يشعر بحياته في عالمه بين الناس انه "الكينغ" وإن غضت دولته الطرف عنه.
الجلسة بصحبة ابو سعيد وهو يحضر قهوته اشبه بصناعة واقع يحتاج الى "غلي" على الرواق وتصفية الشوائب ليصل لبنان الى وطن يفتخر بأبنائه لا ان يرمي بهم على قارعة الطريق لمصير مجهول.
ثلاث ساعات هي رحلة تحضير القهوة بين الغلي والتخمير والتصفية، ينتظرها العم ابو سعيد ، ومعها يصنع مفتاح بداية النهار مع فنجان قهوة"مطبوخ ع اصولو" كما يقول وقد اثلجت قلبه رؤيته للكثير من الشباب يمتهنونها لحياة "بسيطة"، ويعد ابو سعيد عتيقا في المهنة ومنه يتعلم كثر طريقة تصنيع القهوة وان احتفظ بسر قهوته لنفسه. عتبه الوحيد على دولته لانها لا تعترف بالمهنة وتدخلها في الضمان ولكنه يعزي نفسه انها مهنة حرة.
عادت المهنة الى الواجهة، فمن لا يحب القهوة العربية الأصيلة، فنجان قهوة "بيعبي الراس" فكيف اذا كان مخمرا" يقول أبو يوسف. وعادت تستقطب كثرا للعمل فحسين وجد نفسه فجأة دون عمل بعد أن كان يعمل ناطورا في احد القصور، لجأ الى إبريق القهوة الذي تركه والده وبدأ يبيع في جبشيت. يدرك حسين "انها متعبة وتحتاج الى تجول وساعات عمل طويلة" لكنه يؤكد "تعيشه ليومه أفضل من المكوث في المنزل بإنتظار الفرج"، يعتبر حسين أن "القهوجي مهنة الصبر والتحدي في آن وهي ايضا حديث النهار لكل الناس"، ينتظر كثر حسين ليعبر لتذوق فنجان قهوة يذهب معه وجع الرأس".
في سوق النبطية "تتعركش" نظراتك بالقهوجية من مختلف الاعمار، كل اكتسب خبرته بطريقته، تعلم صنع القهوة ومعها تعلم ان يكون صانع الضحكة ايضا، في حديثهم الف حكايا وحكمة تتعلم، وبين طرطقات الفناجين تتعرف على قيمة فنجان القهوة الصباحي، كثر ينتظرون القهوجي ليعبر ليشتروا فنجانًا بـ500 ليرة ، لم تستطع قهوة الاكسبرس ان تنافس قهوة سعيد منانا الشاب الذي يعمل قهوجيا منذ عامين فقط، بين ضحكته التي تختلط بالعتب، تتعرف على حكاية قهوجي اتى الى المهنة ليعبر الى لقمة عيشه بعرق جبينه، بعد ان فضل اللبناني السوري عليه في مهنته "نجار باطون" الذي كان يمتهنها فهجرها الى القهوجية ليسد رمق الفقر، ويعيش بيوميته، وان انتكست صحته تقع الكارثة والاتكال على الله.
إختار مهنة القهوجي بعد أن سدت بوجهه أفق العمل، أتقنها وإن كانت لا تؤمن له حياة كريمة، يعتبرها مهنة "الطوارئ" شرط أن "تتقن طريقة صنعها، تصبر وتكسب زبائنك، فقوتك في السوق هي صيت قهوتك"، من نجار باطون الى قهوجي هي "المسافة بين واقع وآخر" يقول سعيد الذي يأسف أن "تصل الأحوال في لبنان ان يبحث المواطن عن عمل فلا يجد، فيفتش في أوراق المهن القديمة ويعيد لها الروح" هذا ما يعبر عنه متحديا صقيع "ويندي واخواتها"، يجوب المعلم سعيد شوارع النبطية، باحثا عن لقمة عيشه له ولأطفاله، ساعات طويلة يمضيها في تجواله، ومعه كثر كل إتخذ زاوية يبيع فيها، هربا من المنافسة، اتقن محمد "كار القهوة" جيدا، بات معلم قهوة بعد أن سدت كل ابواب العمل،" ليست مربحة ولكن أفضل من "القعدة" بالبيت"، تعلم من مهنته "عدم اليأس" ومكنته أن يكَوّن حلقة معارف كبيرة، متعبة جدا يقول يملك طريقته بصناعتها، يخمرها من يوم لآخر فتكون اطيب. يجب أن يتقن سر مهنته لينجح، طبعا ليس سهلا أن تنجح ولكن مع الوقت اتقنتها.
يرسم القهوجي اليوم خريطة مهن جديدة، يبدو أن المواطن سيطرقها عمّا قريب وسط خلو الساحة من فرص عمل، ولا نستغرب إن عادت مهن كانت منسية، ففي لبنان التقدم يسير عكس التيار كما يقول سعيد وهو يقدم فنجان قهوة لزبون ويكمل رحلة العمل دون أن ينسى الإشارة الى أن "لا أفق للمهنة ولكن لها نكهتها ولا يعرف قيمتها إلا من يتلذذ بطعم القهوة من قهوجي عرف كيف يصنع قهوته فتفوح رائحتها في المكان".