فراس الهكار
يدفع عربة خشبية عليها بعض الخردوات المعدنية وزجاج محطم. بدت العربة ثقيلة بحملها على طلال، الرجل الخمسيني، الذي اختار بيروت مكاناً للإقامة المؤقتة، بعدما أمضى عقدين من الزمن مدرّساً لمادة الفلسفة في مدينة الرّقة السورية، قبل أن يقوم تنظيم «داعش» بإلغاء هذه المادة من المناهج التدريسيّة. هرب طلال بحثاً عن فرصة عمل تعينه على تأمين حياة كريمة لأسرته.
طلال ليس وحيداً. إنّه واحد من آلاف حملة الشهادات الجامعية السوريين، الذين أجبرتهم ظروف الحرب على مغادرة البلاد والاستقرار في لبنان. هذا البلد الذي كان، حتى نهاية العام المنصرم، يعتبر الملاذ للسوريين الهاربين من الموت.
مازن القصير، مهندس مدني، قادم من حي الأرمن في مدينة حمص، ترك وظيفته الحكومية (المشروطة بإنهاء الخدمة الإلزامية)، وخرج قاصداً لبنان خشية الالتحاق بالخدمة العسكرية. لم يكن يعرف أحداً في بيروت. ساقه القدر لأن يسكن في «طريق الجديدة». يروي للـ«الأخبار» بعض معاناته: «أمضيت أول عامين من الأزمة في حمص، نزحنا مؤقتاً إلى الريف، لا أنكر أني كنت أحلم بالتغيير، أو بالإصلاح ربما، لكن الأمور أخذت منحىً مختلفاً. طردني أصدقائي المتظاهرون من جامع الصحابي خالد بن الوليد، لأنني مسيحي. هنا كان الفراق بيني وبينهم، وأدركت أن ما يحدث ليس ثورة للتغيير». يتابع مازن: «لم يكن عندي فكرة وافية عن لبنان. سكنت في الطريق الجديدة، وانتابني بادئ الأمر خوف شديد حين رأيت رايات جبهة النصرة مرفوعة في الشوارع. تشاركت بيتاً مع شباب من الرقة ودمشق وحماة، محاولاً التأقلم ما أمكن مع وضعي الجديد».
الخدمة العسكرية تشكل عائقاً كبيراً يمنع الكثيرين من العودة الى سوريا
بدأ مازن رحلة البحث عن عمل، كان حلمه أن يعمل في مجال اختصاصه، اي الهندسة. أمضى أياماً لتحضير الـ«CV»، إلا أنه لم يوفق بغير العمل في جمعية ترعى الأطفال الصم والبكم. يضيف مازن: «نمضي عشر ساعات يومياً في السيارة نتجول في المناطق اللبنانية كافة لتأمين خردوات يفككها التلاميذ في الجمعية، ويعود ريعها لتعليمهم. أحاول تسلية نفسي بقراءة بعض الكتب التي نجمعها من البيوت». استطاع مازن الحصول على فيزا إلى البرازيل، إلا أنه رفض السفر في اللحظات الأخيرة، فهو يُفضل العودة إلى سوريا، ويُقيم في لبنان «لأنها الأقرب إلى وطني الأم»، كما يقول.
لا تختلف حال عبيدة كثيراً عنه حال مازن، فالشاب القادم من مدينة حماة، بعد أن أنهى دراسة الهندسة الكهربائية، غادر سوريا بسبب الحرب، فيما لا يزال شقيقه الوحيد معتقلاً فيها، وأمضى أشهراً طويلة يبحث عن فرصة عمل تتناسب مع شهادته، من دون جدوى، يقول عبيدة للـ«الأخبار»: «لم أجد فرصة عمل تناسب شهادتي الجامعية، ازدياد عدد السوريين في لبنان ضاءل فرص العمل، ولأني مضطر ومحتاج بدأت العمل في محل موبايلات في سوق صبرا».
يعمل عبيدة اليوم قرابة الـ11 ساعة يومياً، بأجر يصل إلى 450 دولاراً، ويحاول العيش بالقدر اليسير ليتمكن من إرسال النقود لوالدته في حماة. يضيف عبيدة شارحاً: «فكرت بادئ الأمر بالهجرة إلى أوروبا، كما فعل معظم أصدقائي، ثم تجاهلت الأمر، ورضيت بواقعي نتيجة ارتفاع تكاليف الهجرة، وازدياد مخاطرها، والخوف من المجهول، ولا أتمنى سوى العودة إلى سوريا آمنة».
اختار محمد عبد الله أن يكمل دراسته في إحدى الجامعات اللبنانية، وأمضى ثلاث سنوات بين العمل والدراسة، متابعاً رسالة الماجستير في التجارة والاقتصاد. لكنّه حين فقد عمله في متجر لبيع الألعاب في ضاحية بيروت الجنوبية، قرّر العودة إلى الرقة، وحين سؤاله عن الأمر يقول ساخراً: «سأكون خازناً لبيت مال المسلمين، أو أميراً لأحد القواطع في الولاية بحكم اختصاصي الأكاديمي» ويتابع شارحاً ظروفه: «تركت وظيفتي الحكومية في مدينة الرقة، واخترت بيروت للاستقرار فيها ومتابعة دراستي منذ بداية الأزمة. الخدمة العسكرية تشكل عائقاً كبيراً يمنعني من العودة، كما تقف في وجه طموحات الشباب. لقد باتت الخدمة العسكرية اليوم موتاً محتماً». يروي إيفان، الصيدلاني الذي اضطر للعمل محاسباً في سوبر ماركت في بيروت منذ غادر مدينته حمص قبل عامين، أنّه اضطر للهرب من القتل الممنهج الذي طاول المدنيين في معظم أحياء المدينة. «لم يعد بمقدوري البقاء في سوريا بسبب تدهور الأوضاع الأمنية والاغتيالات والخطف الذي كان يطاول المدنيين، وبخاصة الأكاديميين منهم، ارتفعت أسعار الأدوية لدرجة كبيرة، وأصبح تأمينها شبه مستحيل، وينطوي على مخاطرة كبيرة». مضيفاً: «حاولت السفر إلى إحدى دول الخليج بحثاً عن فرصة أفضل ولم أنجح، كما لم أتمكن من العمل باختصاصي هنا، وجدت عملاً في سوبر ماركت، وأحاول جاهداً الحفاظ عليه إلى أن تهدأ الأوضاع في سوريا وأرجع إلى أهلي. لا سيّما أنّ الخدمة العسكرية تنتظرني في حال عدت اليوم، جواز سفري يوشك على الانتهاء، والكثير من التضييق على السوريين بدأ مؤخراً في لبنان، ورغم كل ذلك فإننا لا نملك غير الانتظار».تضيق السبل بالشباب السوريين، فيجدون أنفسهم أمام مستقبل مجهول، وحرب قد تطول، من دون أن ينجزوا أمراً يضمن لهم الاستقرار، لكنهم يعيشون على الأمل رغم المعاناة، ويحلمون بالعودة إلى بلدهم آمنين للمساهمة بإعادة إعمارها حين تضع الحرب أوزارها.