الاسم اللامع في عالم الإرهاب لا يبالي بأي شيء بل يحكي الأمور كما هي، حتى أن المحققين في وزارة الدفاع خلال الجلسة الأولى للاستجواب الأولي لم يستطيعوا أن يطرحوا عليه أكثر من سؤال واحد، حتى كرّت سبحة اعترافاته بتسلسل تاريخي دقيق. وكما في الوزارة، كذلك في المحكمة العسكريّة، حيث وقف «أبو خالد المقدسي»، المبتسم دائماً، تحت قوس المحكمة العسكريّة معرّفاً عن نفسه بالقول «أنا شخص فلسطيني»، ليروي «حكاية النضال ضدّ اليهود منذ نعومة أظافري»، وفق ما قال وهو يحاول أن يشبك يديه المرتجفتين والموضوعتين خلف ظهره ويخبئ الخوف بابتسامة.
بدأ نعيم عباس «النضال» بعدما انتسب إلى حركة «فتح» فخضع لدورات تدريبيّة على القتال والسلاح الفردي حتى العام 1990، حين انتقل إلى «الجهاد الإسلامي» وبقي فيها حتى العام 2005. وخلال هذه الفترة تلقى تدريبات عسكريّة متخصّصة بإطلاق صواريخ «كاتيوشا» و «صواريخ 107»، ثم دورات متخصّصة بالتفخيخ على يد توفيق طه.
في العام 2000 «كنتُ أوّل الداخلين إلى المناطق المحرّرة» وبعدها «صرتُ أعرف الجنوب شبراً شبراً». غير أن «المقاوم» لم يلتزم كثيراً بقرارات «الجهاد الإسلامي» بل أخذ على عاتقه مهمّة إطلاق الصواريخ على مستوطنات اليهود، ولا سيّما كريات شمونة. «أنا كان لديّ خبرة ولم أنتظر قرار الجهاد، بل ساعدني (السعودي) صالح القرعاوي وأيضاً توفيق طه، لكنّه لم يكن هو (طه) من درّبني على إطلاقها بل أنا من أدخله إلى هذا المجال».
وبهذا الأمر تحديداً، تمّ إلقاء القبض على نعيم عباس والتحقيق معه في وزارة الدفاع في العام 2002 «غير أنني لم أكن أنا من أطلق النار في هذا العام».
بقي «المقاوم لليهود» في «الجهاد» حتى العام 2005، حين جنّده «المرشد» صالح القرعاوي الذي انتمى إلى تنظيم «القاعدة» وسافر إلى العراق في العام 2004. وبعد عام أبلغه الشيخ السعودي أنّ أبو مصعب الزرقاوي يريده أن يأتي إلى العراق. لم يرفض عباس للزرقاوي طلباً، بل سارع إلى الذهاب نحو «وكر القاعدة» بطريقة «شبه رسميّة»، على اعتبار أنه لم يكن مطلوباً للقضاء. وهناك مكث شهرين والتقى قادتها (ما عدا الزرقاوي) الذين كلّفوه بالعمل في الجنوب تحت جناحهم وأن تتحوّل عمليّات إطلاق الصواريخ من عشوائية إلى عمليّات منظّمة. وفعلاً عاد «أبو خالد المقدسي» من العراق مبايعاً «القاعدة» وتوجّه نحو الجنوب حيث أطلق صاروخاً، قبل بدء حرب تمّوز وتنفيذ الـ1701، الذي كبّله.
وكما جنّده القرعاوي الملقّب بـ «نجم الخير» للانتساب إلى «القاعدة»، حوّله بعد سنوات إلى قيادي في «كتائب عبد الله عزام» التي عمل (القرعاوي) على تأسيسها بالتعاون مع ماجد الماجد الذي كان الشقّ المالي محصوراً فيه (بمعنى آخر كان الممول الرئيسي)، فيما كان من بين الذين انتسبوا إلى «الكتائب»: توفيق طه وجمال دفتردار وبلال كايد، وكان عباس يتلقى المال حينها من طه والماجد.
بالنسبة لنعيم عباس، فإنّ «الكتائب» لا تختلف عن «القاعدة»، وهدف تأسيسها هو «ضد اليهود فقط لا غير، وذلك من خلال القيام بأعمال عسكرية من جنوب لبنان باتجاه فلسطين المحتلّة».
وبعد «الانتفاضة في سوريا»، وسّع «أبو خالد المقدسي» دائرة أعماله، وذهب إلى سوريا حيث خضع لدورات عسكريّة على يد توفيق طه، كما انتقل إلى القلمون ليعمل كـ «مفخّخ حسب الطلب»، وإن كان يؤكّد أنّه لم يقم بتفخيخ سيارات مخصّصة لسوريا، بل حصر أعماله في لبنان.
كان نعيم عباس ينسّق أمنياً مع قادة «جبهة النصرة» حتى ذاع صيته لدى تنظيم «داعش» وعمل معهم، وشبك علاقة شخصيّة جيّدة مع «أبو محمّد الجولاني» و «أبو مالك التلي» و «أبو عبد الله العراقي» و «أبو خالد السوري». وهم طلبوا منه البدء بتنفيذ عمليات عسكريّة ضد مواقع لـ «حزب الله» في الضاحية الجنوبيّة والبدء بالتحضير للسيارات المفخّخة، فيما كان يتلقى الأموال من «أبو عبد الله العراقي» و «أبو خالد السوري».
كان نعيم عباس أمس يريد أن يكمل سيل اعترافاته، غير أن تدخّل ممثل النيابة العامة ومفوض الحكومة في المحكمة العسكريّة القاضي هاني حلمي الحجار، منعه من سرد نهاية قصّة «النضال» التي انتهت ضد المقاومة! حجّة الحجّار أنّه يجب مراعاة قضية نعيم عباس على اعتبار أنّه ما زال قيد التحقيق العسكريّ أمام القضاء العدلي التي هي صاحبة الاختصاص في ذلك، كما أن إفادته خارجة عن سياق الجلسة المخصّصة لموقوفي أحداث عبرا.
وبالتالي، أعاد الحجّار نعيم عباس إلى واقعة 23 حزيران 2013 وما سبقها وما تلاها من أحداث. كان «أبو خالد المقدسي» يتمنّى لو كان موجوداً للمشاركة في أحداث 18 حزيران، أي استهداف المتواري أحمد الأسير للشقق التي كانت معروفة بـ «شقق حزب الله»، إلا أن وجوده في سوريا (تحديداً في درعا) منعه من ذلك وهو لم يصل إلى لبنان إلا في أواخر حزيران 2013 (بعد هروب الأسير).
بالطبع، لا برهان مادياً يدلّ على أنّ نعيم عباس كان فعلاً في سوريا، عكس إفادات بعض موقوفي مخيّم عين الحلوة الذين يشيرون إلى أنّه شارك مع «إسلاميي المخيّم» في إطلاق النار على الجيش، فـ «مطلوب مثلي لا يملك أدلّة على ذلك»، مضيفاً بسخرية: «هل آتي إليكم بشهود كانوا معي في سوريا؟».
وأكّد عباس أنّه «لم يطلق النار على الجيش ولا سوابق لي في ذلك، تماماً كما لم تفعل كتائب عبد الله عزام ذلك، ولا حتى توفيق طه، إذ إنّ عقله مثل عقلي ونحن لا نعتدي على الجيش»، نافياً أي علاقة شخصيّة له مع بلال بدر أو هيثم الشعبي أو أسامة الشهابي.
وبالرغم من عدم امتلاكه معلومات عمّا حدث في عبرا في حزيران، إلا أن لنعيم عباس تحليله: «كنت أتمنى لو أكمل الشيخ الأسير معركته ضدّ الشقق لينال عطفاً شعبياً من جميع الطوائف، لأنّه كان عليه أن يعرف أن حزب الله لن يتركه بعدها، وهذا ما حصل، فدخل طرف ثالث واستهدف الأسير والمجاهدين والمسلحين والجيش»، مضيفاً: «من خلال معرفتي بحزب الله فإنّه لا يقوم بحركة غبيّة بالاعتداء المباشر على شخص سني».
وبالرغم من أنّ عباس قال رداً على سؤال العميد ابراهيم: «هل أنت تقصد حزب الله وسرايا المقاومة؟»، «ممكن»، إلا أنّه أوحى أنّ «الحزب» هو من استدرج الجيش للقيام بهذه المعركة عنه.
وسألت المحامية المكلّفة من رئاسة المحكمة الترافع عن عباس زينة المصري موكّلها: «هل قام حزب الله باعتقالك حين كنت تطلق الصواريخ من الجنوب وضربوك؟»، فردّ الأخير بالنفي، لتعيد المحامية السؤال مشيرةً إلى أنّ موكّلها خائف من الإجابة، ليقول عباس باستغراب: «إذا بدّك زبّطها إنو اعتقلوني بزبّطها»!
كما ردّ نعيم عباس على محاميه السابق طارق شندب في هذه القضيّة الذي قال عبر إحدى القنوات العربيّة: «نعيم عباس كان مكلّفاً من المخابرات السوريّة بالتفجيرات»، فأوضح أنّ «هذا الكلام عارٍ من الصحة ويبدو أن شندب كان غاضباً من الضيف الثاني في البرنامج ففشّ خلقه فيّ، وأبرز دليل على أني لم أكن مكلّفاً من المخابرات أنني التقيت شندب آخر مرة منذ أكثر من سنة وشهرين».
جلسة عبرا إلى 9 حزيران
وكانت المحكمة العسكريّة قد استجوبت 9 موقوفين من أحد الملفات المتفرّعة عن أحداث عبرا، وهي تأليف مجموعة مسلحّة وإطلاق نار، وهم: اللبناني أدهم الزعتري، والسوريون: محمّد المصري، وسيم وزاهر الزين والقاصر أ. ع. والفلسطينيون: محمد جبر، حسين سعد الدين، محمود دهشان. وقد أنكر جميعهم مشاركتهم بإطلاق النار أو حتى انتماءهم إلى مجموعات تابعة للأسير.
وفي الملفّ الأساسي، استجوب العميد ابراهيم (إلى جانب عباس) راشد شعبان، الذي قال إنّه لم يشارك في معارك عبرا، بل كانت مهمّته في «مسجد بلال بن رباح» محصورة بالعمل الإداري ومنها تسجيل أسماء الذين أخذوا السلاح من المسجد وكانوا يفوقون الـ150، كما أنّه كان على علم بأن تدريبات عسكريّة كانت تجري في قبو المسجد.
ثم أرجئت الجلستان للمرافعة في 9 حزيران المقبل، حينما سيقدّم أيضاً وكلاء الدفاع لائحة مشتركة من الأدلة والشهود لتبتّ بها هيئة المحكمة في اليوم نفسه، بالإضافة إلى توجيههم أسئلة للمدعى عليهم.
لينا فخر الدين
السفير بتاريخ 2015-05-20 على الصفحة رقم 3 – سياسة