عَلِق وفد «أنصار الله» في جيبوتي، وهدَّد بالعودة إلى صنعاء، بعدما رفضت القاهرة منحه تصريحاً للهبوط والتزود بالوقود على أراضيها.
لم يكن ذلك الجانب الوحيد الذي أحرج الأمم المتحدة، برغم أنَّها بادرت إلى إطلاق موجة ضغوط مستندة بذلك إلى دعم مجلس الأمن الدولي، من أجل إيصال طائرة وفد صنعاء إلى جنيف. «هدنة رمضان» الإنسانية التي دعا إليها الأمين العام للمنظمة الدولية بان كي مون، مرفوضة جملة وتفصيلاً من قبل وفد الرياض، إلَّا إذا تحقَّقت شروط، من بينها قوَّات مراقبة للهدنة، في ظل تأكيد مصادر أمميَّة أنَّها طروحات «غير واقعية».
كان من المفترض أن يصل وفد صنعاء الذي يضمّ ممثلين عن جماعة «أنصار الله» والرئيس السابق علي عبد الله صالح وحلفائهم يوم السبت الماضي. لكن الطائرة تأخَّرت، ونام مؤتمر جنيف على نية الانعقاد غير المؤكدة.
حين سطعت الشمس فوق مياه بحيرة «ليمان»، لم يكن في قصر الأمم المتحدة المطلّ عليها أثر للطرف الثاني. وفد صنعاء لم يصل، وبرنامج المؤتمر استمر بمن حضر. قابل بان كي مون وفد الرياض، برئاسة رياض ياسين، وزير الخارجية بالوكالة المقيم في الرياض، ليلتقي بعدها بممثلي مجموعة «الـ 16» الداعمة للمؤتمر، فيما أخَّرت عراقيل «لوجستية» وصول وفد صنعاء الذي كان من المقرر أن يجتمع بالأمين العام.
هكذا انشغل ضيوف جنيف اليمنيون، ومستضيفوهم في قصر الأمم المتحدة، بمتابعة مستجدات الدراما التي تجري بعيداً في جيبوتي. مصدر في الأمم المتحدة أكَّد لـ «السفير» أنَّ ما حصل يتلخَّص بالآتي: «أرسلنا للحوثيين طائرتين لكنَّهم رفضوا الصعود على متنيهما، قَبِلوا في المرة الثالثة، لكنَّ مصر رفضت إعطاء طائرتهم تصريحاً بالهبوط لتعبئة الوقود أو حتى بالعبور في أجوائها».
برغم هذا المأزق، الذي أوصلت عبره الرياض رسالتها الصريحة، كانت كل المؤشرات تقول إنَّ الأمم المتحدة لن تسمح بانهيار المؤتمر، أو على الأقل ليس بهذه الطريقة. قال بان كي مون إنَّ مجلس الأمن هو الضامن لعقد المؤتمر، مؤكداً أنَّه يحمل تفويضاً واضحاً منه لإنجاز ذلك. من لم يفهم الرسالة، أوصلها إليهم الأمين العام من خلال مؤتمر صحافي بالكلام الصريح، شرح خلاله الفرق بين أزمة اليمن وأزمتي سوريا وليبيا، بالقول: «هناك سبب للأمل، فخلافاً لغيرها من الأزمات، الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن متَّحدون».
وكما نشرت «السفير» في تغطيتها لمؤتمر جنيف، أمس، أعلن بان كي مون أنَّ الهدف من المؤتمر هو الخروج بهدنة إنسانية، سماها هو الآخر «هدنة رمضان». مستنداً إلى دعم مجلس الأمن، كشف أنَّه طلب أن تكون مدة الهدنة «أسبوعين على الأقل»، معتبراً أنَّ قدوم شهر الصيام يمثل «سبباً وجيهاً لهذا الغرض الإنساني».
لكنَّ لسان حال وفد الرياض كان يناقض أجواء التفاؤل التي حاول الأمين العام إشاعتها حين قال: «آمل أنَّه في هذا الأسبوع سنشهد بداية لنهاية القتال». رفض الهدنة الإنسانيَّة، المجرَّدة من الشروط، جاء على لسان وزير الخارجية بالوكالة رياض ياسين الذي قال لـ «السفير» إنَّ وفد الرياض لا يريد «هدنة لمجرد الرغبة في الهدنة، فقاتل الشعب اليمني لا يفرق في رمضان أو غيره»، بل سيوافق فقط على «هدنة تلبي حاجات الشعب اليمني وتنفّذ قرار مجلس الأمن الرقم 2216».
لكن شرطاً كهذا يعني سدّ الطريق أمام أيّ هدنة، فجماعة صنعاء يرفضون قراءة القرار الأممي بأنَّه مجرد «تسليم للسلطة» كما يردّد وفد الرياض.
على كل حال، أعرب ياسين عن استعداد حكومة المنفى القبول بالهدنة في حال تحقيق شرط بديل يتمثَّل بتأمين ما أسماه «ضمانات قوية». قال وزير الخارجية رداً على سؤال «السفير»، إنَّهم يقبلون وقفاً لإطلاق النار إذا تم إرسال «قوات يمنية وعربية، تحت أيّ مظلة كانت، تستطيع أن تراقب تنفيذ ما نتوافق عليه، هذا إذا اتفقنا على شيء».
أحد أعضاء الوفد قال لـ «السفير»، مشترطاً عدم كشف هويته، إنَّ طرح مسألة نشر القوات «ليس بلا أرضية»، معتبراً أنَّ «الحديث طبعاً هو عن قوات عربية لا أممية». وأوضح أنَّه «يمكننا تأمين قوات من دول محايدة كي لا يحتج الحوثيون، وهناك دول أعطت موافقتها الأولية»، ملمحاً إلى مصر من دون ذكرها مباشرة.
أجواء افتقاد محرّك جنيف اليمني لوقود «الإرادة والتفاؤل» أكَّدها أيضاً مصدر أممي مقرَّب من المبعوث الخاص إلى اليمن اسماعيل ولد الشيخ أحمد. قال المصدر لـ «السفير» إنَّ طرح وجود قوات «غير واقعي»، موضحاً أنَّها «قضية في حاجة إلى ترتيبات طويلة وغير ممكنة كيفما اتفق، تحتاج إلى أشهر، فالأمر في حاجة إلى قرار من مجلس الأمن». أما حول إمكانية التوصل إلى هدنة، فأكد المصدر أنَّ «الأمل الوحيد» هو في الضغوط التي يمكن لواشنطن ممارستها على السعودية لتكرار سيناريو الهدنة الأولى. لكنه لفت إلى أنَّهم أخذوا علماً برفض الرياض: «المسألة عند السعودية الآن، ويجب أن تقبل لتحصل أيّ هدنة، لكنَّنا لا نرى أجواءً لحصول ذلك».
قاموس مفردات وفد الرياض كان يفيض بالتشاؤم حيال إحراز المؤتمر أيّ نجاح، مع تحميل المسؤولية المسبقة للوفد الخصم. أحد أعضاء الوفد أكَّد لـ «السفير» أنَّ بان كي مون «لم يطرح خلال لقائه معنا إطلاقاً مسألة الهدنة» الرمضانية، موضحاً: «لم نسمعه يتحدث عنها إلَّا خلال المؤتمر الصحافي».
ما رفضه رياض ياسين بديبلوماسية، شجبه آخرون بالمعارضة الصريحة. عضو الوفد عبد العزيز الجباري، وهو الأمين العام لحزب «العدالة والبناء»، قال لـ «السفير»: «لن نسمح بأن يعاد ما حصل في الماضي». استعاد أجواء الهدنة السابقة التي فرضتها واشنطن على «التحالف» الذي تقوده الرياض، قبل أن يضيف: «الهدنة الإنسانية لخمسة أيام تم استغلالها أبشع استغلال، لقد حرَّكوا أسلحة ثقيلة ومنصات صواريخ السكود باتجاه الحدود مع السعودية».
عيار رفض الهدنة كان أعلى بكثير من فم أحمد المسيري، عضو الوفد وقائد ما يسمى بـ «المقاومة الجنوبية» التي تخوض جانباً من الحرب البريَّة ضدَّ الجيش اليمني و «أنصار الله». قال خلال حديث مع «السفير» إنَّه لا يمكن لأحد المزاودة عليه، بأنَّه جزء من «حكومة منفى مترفة»، مردداً أنَّه جاء إلى جنيف قادماً «من جبهات القتال، من عدن عبر حضرموت وشروروة». لم يتردَّد في رفض مبدأ «الهدنة الإنسانية» جملة وتفصيلاً، معلقاً بالقول «الأمر مرفوض، لا رمضان ولا بعد رمضان، إنَّه شهر كريم يجوز فيه الجهاد، ونحن نجاهد في سبيل الله».
مثل بقيَّة أفراد الوفد، ردَّد المسيري ضرورة تطبيق القرار 2216، كما لو أنَّهم يحملونه كتعويذة. كان واضحاً بالنسبة إليهم أنَّ حضور وفد صنعاء، والانطلاق «من دون شروط مسبقة»، يعني إعطاء «شرعية» دولية لخصومهم، فيما يرون أنَّ القرار الدولي يحصرها بمن تستضيفهم الرياض. لذلك استمر التوتر، والغيظ المكبوت، من المبعوث الأممي الذي جعل تمثيل «المكونات السياسية» مظلَّة للاجتماع، شاطباً صيغة «الشرعية والانقلابيَّة» التي يريدها أنصار هادي. مصدر آخر كان حاضراً قبل لقاء ولد الشيخ أحمد مع وفد الرياض، قال إنَّ رئيس الوفد وجّه قبل دخولهم الصالة بالقول: «تجلسون وتصغون إليه حتى النهاية، ولا نريد أيّ تعليق كان على كلامه، اجلسوا واسمعوا فقط».
لم ينجح ولد الشيخ أحمد في إقناعهم بالجلوس على طاولة واحدة مع وفد صنعاء المرتقب حضوره. بقيت الصيغة كما هي، توزيع وقت المبعوث بين صالتين، بالتساوي، في تكرار لسيناريو جنيف السوري. مصدر مقرب من ولد الشيخ أحمد قال لـ «السفير» إنَّ التعويل على نتائج مهمة «ليس حكيماً»، مضيفاً أنًّها «مجرد خطوة في مسار طويل، ما نريده هو أن تكون هناك جولات جديدة».
صالة وفد الرياض ضمنت من يشغلها، وصالة وفد صنعاء كانت تنتظر. كانت الأمم المتحدة بالفعل أمام فضيحة انهيار المحادثات، خصوصاً بعدما أعلن أمينها العام ثقته بحضور الوفد على الأكثر «في المساء». فات المساء، فقامت مصادر الأمم المتحدة بتأميل حشد الصحافيين المنتظرين بأنَّ الوصول سيكون فجراً.
كل ذلك كان يستغله وفد الرياض على أحسن ما يرام، مستخدماً منصَّة جنيف الخالية له لإكمال حملة إعلامية شرسة ضدّ خصومه. سمع من بان كي مون ما يزيد قلقه من إجبار الرياض على الهدنة، حين قال إن موقّت العد التنازلي في اليمن «ليس ساعة بل قنبلة موقوتة». أضاف لذلك عاملاً يغيظ وفد الرياض لأنه عامل يستخدمه خصومهم أيضاً، إذ اعتبر أنَّ ما يحرّك المجتمع الدولي لمنع «جرح مفتوح آخر مثل ليبيا وسوريا»، هو أنَّ «القتال يعطي قوة جديدة لبعض الجماعات الإرهابية الأكثر شراسة في العالم». لذلك طالب أيضاً بمحاولة تكرار ما طرح في سوريا، عبر إنجاز عمليات وقف إطلاق نار محلية، أينما أمكن، مع العمل على إعادة إطلاق المسار السياسي.
انهيار المؤتمر قبل انطلاقه، كان ليكون يوم احتفال في فندق «ستارلينغ» حيث يقيم وفد الرياض. لم يترك بعضهم مجالاً للشك في ذلك، إذ قال المسيري، زعيم «المقاومة الجنوبية»، إنَّ شيئاً لم يتغيَّر منذ رفضوا حضور المؤتمر سابقاً: «لقد قبلنا إرضاءً للأمم المتحدة، حتى لا يقولوا إننا ضدّ السلام، وكي لا يقولوا إننا متعنتين». الجميع كان ينتظر طلوع الشمس فوق بحيرة «ليمان»، للتيقن إنْ كان قصر الأمم المتحدة سيشغل صالتيه لتدشين «جنيف اليمني» بعد تأخير.
وسيم ابراهيم
السفير بتاريخ 2015-06-16 على الصفحة رقم 1 – الصفحة الأولى