في الوقت الذي كان فيه رجال «الأمن الوقائي» التابعون للسلطة الفلسطينية يقتحمون منزل الشهيد يحيى عياش في الضفة المحتلة، بحثاً عن نجله براء فجر أمس، أحرق مستوطنون صهاينة من منظمة «تدفيع الثمن» منزل عائلة دوابشة في بلدة دوما جنوبي نابلس. بالنسبة إلى رجال السلطة، إن القبض على المخالفين لتوجهات «القيادة الحكيمة» أهم من مواجهة المستوطنين القتلة.
وفي ساعات الفجر الأولى، تسللت مجموعة من الصهاينة إلى دوما، وألقوا عدداً من قنابل المولوتوف على منزلين متجاورين. كان البيت الأول خالياً ولم يصب أحد بأذى، لكن الحظ لم يسعف عائلة دوابشة التي استشهد صغيرها علي البالغ من العمر عاماً ونصف عام. بهذه البساطة «حرقوا الرضيع»، ولم يكتف المستوطنون بذلك، فكتبوا على جدار البيت بالعبرية كلمتي «الثمن» و«الانتقام». المنظمة معروفة بتطرفها، «تدفيع الثمن»، هاجمت في السابق أديرة وجوامع في القدس والضفة، لكن، بما أن «التنسيق الأمني مقدس»، اكتفت السلطة على لسان رئيسها محمود عباس بالقول، كما كل مرة، إن السلطة «تجهز ملفاً حول الجرائم الإسرائيلية، ومن ضمنها جريمة قتل الطفل علي دوابشة، وستتوجه به فوراً إلى محكمة الجنايات الدولية».
من نكد الدهر أن نتنياهو تعهد بمعالجة العائلة على حساب «دولة إسرائيل»
بالطبع هذا الكلام مردود على صاحبه، فمن لم يستطع طرد إسرائيل من «الفيفا» وتراجع عن ذلك في اللحظة الأخيرة، لن يجرؤ على محاكمة إسرائيل في محكمة الجنايات، وبالتأكيد إذا فعل، فإنه سيعيد تكرار ما جرى في سويسرا ويسقط الدعوى في اللحظة الأخيرة. ومن قُتل 2500 شهيد من أبناء شعبه في حرب استمرت 55 يوماً ولم يرفع ملفاً إلى «الجنايات الدولية»، برغم مرور عام على انتهاء العدوان، وتأكيد عدة منظمات من مؤسسات الأمم المتحدة أن ما ارتكبته إسرائيل يعتبر جريمة حرب، لن يذهب «فوراً» حاملاً ملف دوابشة. ومن المؤكد، أيضاً، أنّ من يُقتل وزير في حكومته (زياد أبو عين) مباشرة على الهواء ولا يتحرك للرد على ذلك، لن يهزّه حرق الطفل علي، برغم تصريح عباس بأنه أمر وزير خارجية السلطة، التوجه اليوم إلى مقر محكمة الجنايات لرفع دعوى ضد إسرائيل.
إذن، لا يمكن التعويل على رد فعل عباس، فأقصى ما يمكنه فعله هو تكراره الإسطوانة نفسها والتهديد بإيقاف التنسيق الأمني مع العدو، إن فعل. ولكن الجميع، صغاراً وكباراً، يعرفون أن صاحب مقولة «التنسيق الأمني مقدس»، أضعف من ذلك بكثير، ولن يجرؤ على تنفيذ ما يقوله. يمكن «أبو مازن» الاكتفاء بإخراج المتحدث الرسمي باسم السلطة نبيل أبو ردينة للقول إن هذه العملية جاءت رداً على «نجاحات سياسة القيادة»، كما فعل عند استشهاد الفتى محمد أبو لطيفة منذ أيام، أو يمكنه تكرار ما اعتاد قوله عند كل حدث يستهدف الفلسطينيين، وهو أن «سياسة العدو ستدفع القيادة إلى اتخاذ قرارات مهمة»، كأن كل ما يجري لا يتطلب وقفة مسؤولة ممن يعتقد أنه «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، أو يمكنه شنّ حملة لنزع الرايات الخضر في أزقة الضفة (الرايات الخضر تمثل رايات حركة «حماس» التي تمنع السلطة رفعها في الضفة). يمكن القول إن سياسة «أبو مازن» المتخاذلة قد شجعت المستوطنين الصهاينة على إحراق دوابشة. بل لماذا لا يفعلون ذلك في الأصل وهم شاهدوا كيف كان رد فعل السلطة على إحراق الطفل محمد أبو خضير؟ في ذلك الوقت، لم يفعل عباس شيئاً، وأقصى ما فعله كان استقبال عائلة الشهيد، وإلقاء خطاب عاطفي فيهم. اليوم سيكرر «أبو مازن» السيناريو نفسه، برغم انشغاله حالياً في شؤون حركة «فتح» الداخلية وترشيح خليفة له، ثم سعيه الدائم إلى «زكزكة» حماس بتعديلات يجريها كل شهر. أما في الشأن الوطني، فهي «سارحة والرب راعيها».
اليوم، تقبع عائلة الشهيد دوابشة في مستشفيات إسرائيلية لتلقي العلاج. الأم ريهام، التي حاولت الدخول إلى منزلها للمرة الثانية لإنقاذ طفلها، راقدة في مستشفى تل هشومير في تل أبيب، وهي مصابة بحروق بنسبة 90% في كل جسدها وتواجه خطر الموت. أما أحمد (4 سنوات) ــ شقيق علي ــ فهو مع والدته في المستشفى، وأكلت النار 60% من جسده. كذلك يقبع سعد ــ والد الشهيد ــ في مستشفى سوروكا في بئر السبع، وهو يعاني حروقاً بنسبة 80%.
ولسخرية القدر، تعهد رئيس حكومة العدو الإسرائيلي بينيامين نتنياهو، بعد زيارة العائلة، بمعالجتهم على حساب «دولة إسرائيل»، ومن نكد الدهر أيضاً اتصال نتنياهو بعباس طالباً منه «مكافحة الإرهاب معاً من أي جهة أتت». في نهاية هذا اليوم الأسود، شيع أهالي قرية دوما جثمان الطفل علي، وشارك في الجنازة رئيس حكومة السلطة رامي الحمدالله، الذي أدى الوزراء ممن عينهم في التعديل الأخير اليمين الدستورية أمام «أبو مازن» عصر أمس بعيداً عن الإعلام. كذلك شارك معه راعي التنسيق الأمني ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج. وبما أن «التنسيق مقدس»، فقد انتشرت شرطة مكافحة الشغب التابعة للسلطة على خطوط التماس مانعة الشباب برغم أعدادهم القليلة من استهداف جنود العدو.
أمس، انتهى حلم طفل فلسطيني آخر. فقد انضم علي دوابشة إلى الذين سبقوه من الشهداء الأطفال، بدءاً من إيمان حجو ومحمد درة مروراً بفارس عودة (الذي واجه مركبة الرب «ميركافا» بحجر)، وصولاً إلى محمد أبو خضير وعلي الضيف وأطفال عائلة البكر الذين استشهدوا على شاطئ غزة... اليوم يمكن هؤلاء جميعاً أن يراقبونا من السماء، ويمكنهم شتم قيادات قسّمت فلسطين إلى كانتونات وجعلت مواجهة العدو من سابع المستحيلات.
قاسم س. قاسم
الأخبار - عربيات
العدد ٢٦٥٤ السبت ١ آب ٢٠١٥
http://al-akhbar.com/node/239044