فساعة من الوقت داخل ثناياه كفيلة بإعادة احياء عصور ما قبل التاريخ أمام ناظريك عبر شريط زمني متسلسل من العصر الحجري الى عصر البرونز وعصر الحديد مروراً بالعصور الاغريقية والرومانية والبيزنطية وصولا الى العصر الاسلامي والمملوكي، وتراه شامخاً بأعمدته الرخامية في احدى زوايا بيروت التي اختبأت خلف اسمه وتفاخرت به، يحاول ان يخفي تأوهاته من ظلم ذوي القربى الذي لا يعكس إلا "قصوراً ثقافياً" أصاب لبّ المجتمع اللبناني، فيفلح حيناً بإخفاء ذلك ويفشل أحيانًا.
فور دخولك الى المتحف الوطني في بيروت، ينتابك شعور بالفخر، وإحساس يتشتت ما بين الرهبة والعظمة لرؤية التاريخ بمختلف عناصره ماثلاً امامك، وتتسابق ملوك الحضارات القديمة على استقبالك، وآلهة الحب والشفاء على تبريكك، وغسلك في مياه معابد لم تجفّ معنويا، حيث خصصت الطبقة الأولى للقطع الصخرية، والتماثيل، والنواويس والعروش والمعابد والمقابر الجماعية على مرّ العصور، وإذا كانت الطبقة الاولى تحوي موجودات حجرية ذات نقوش ومحفورات وتماثيل كبيرة الحجم ، ففي الطبقة الثانية موجودات فنية "منمنة" الحجم، وكأن الزمان هنا يتمهل عند الفخاريات والزجاجيات والحلي النادرة، والقطع النقدية... التي تقرأ في كل حبة منها رواية صغيرة عن نتاج أنامل الإنسان عبر العصور.
تطوّر دائم
على الرغم من الأهمية الحضارية التي يتمتع بها المتحف الوطني، وعلى الرغم من رمزية "الدخولية" والتي لا تتجاوز الالف ليرة لبنانية للأطفال والـ5 آلاف ليرة لما فوق سن الـ18، هناك لبنانيون كثر لم يزوروا المتحف حتى اليوم، والأسوأ ان بعضهم يعلم بأن هناك منطقة في بيروت تسمى المتحف، دون ان يعرفوا اصل التسمية، التي تعود لمتحفٍ يضم "قطعاً متنوعة من كل الحقبات التاريخية من فترة ما قبل التاريخ (مليون سنة قبل الميلاد) الى عصر الفتوحات الاسلامية، مرتبة حسب التسلسل الزمني للعصور التي تنتمي اليها"، أما المعدل العام للزيارات، كما أكدت مصادر ادارية في المتحف لـ"البلد" فهناك "ما يقارب الخمسين زائرًا يومياً"، وعلى اثر الازمة الأمنية والسياسية الاخيرة التي يعيشها لبنان تأثر الاقبال على المتحف بنسبة "30 بالمئة"، إلا أن هذه الأزمة لم تؤثر على تطوير المتحف داخلياً، اذ يجهد القيمون في المثابرة على حفظ هذا الإرث الحضاري وتطويره رغم كل الانتكاسات التي تعرض ويتعرض لها لبنان وعلى رأسها الحرب اللبنانية، حيث "سيتم افتتاح الطبقة السفلية من المتحف أواخر العام الحالي لتعرض فيها قطع جديدة تتألف من عشرات الفخاريات والنواويس".
دليل الكتروني
كما وكان للمتحف نصيبه من التطور التنكنولوجي "الفريد من نوعه في الشرق الأوسط والعالم" وهو اعتماد تطبيق الكتروني يسمى بـ"national museum of Beirut" يتم تحميله على الهواتف الزكية، وهو بمثابة دليل الكتروني لزائر المتحف يقدم له تعريفاً وصفياً وافيا وكافياً، باللغات الثلاث، على كل قطعة من قطع المتحف، كما ويمكن للزائر الاعتماد على أجهزة الـ"Ipad" الخاصة بالمتحف واستعمالها خلال جولته. بالاضافة الى التعرف على تاريخ المتحف "كيف تعمّر، كيف تهدّم بالحرب الأهلية اللبنانية، وكيف تمت المحافظة على مقتنياته، وكيف تمت اعادة تأهيله" وذلك عبر مشاهدة الفيلم الوثائقي "إحياء" الذي لا تتجاوز مدته الـ12 دقيقة، والذي يتكرر عرضه كل ساعة في السينما الخاصة بالمتحف.
ملتقى حضارات
وعن القيمة التاريخية، الحضارية، الانسانية، الثقافية والسياحية للمتحف الوطني اللبناني، والتي تعجز السطور عن استحضار اهميتها على شكل كلمات وحروف تنحني امام عظمة إرثٍ خلدته أقدم أبجديات ولغات العالم، يتحدث لـ"البلد" الأستاذ الجامعي في التاريخ الاسلامي وتاريخ الحضارات، الدكتور علي الحلاق، مؤكّداً ان المتحف يجمع تراث عدد من الحضارات القديمة التي قلما نجدها بهذا التنوع في أية دولة من دول العالم، ويحتوي على معظم التحف الاثرية التي وجدت في لبنان والتي يعود تاريخها الى حضارات قديمة مختلفة تدل على ان لبنان كان ملتقى حضارات على مر العصور، كما وتدل ايضا على ان لبنان كان ممرا للغزاة "حيث كان هناك صراع ما بين الامبراطوريات التي قامت في بلاد ما بين النهرين والامبراطورية المصرية، ولبنان كان محطةً لهذه الشعوب، وكان ملتقى للثقافات المتنوعة والحضارات العديدة ما انعكس تنوعا في محتويات متحفه الوطني، اضافة الى الحضارات التي نشأت أصلاً في لبنان كالحضارة الفينيقية".
ويشير حلاق الى ان المتحف لم يأخذ حقه على صعيد المعرفة، فـ"زيارات المدارس للمتحف خجولة جدا، ومحصورة بنطاق المدارس المحيطة بالمتحف، على الرغم من انه حسب المناهج التعليمية الجديدة صار من المفترض وجود زيارات ميدانية طلابية لمواقع الآثارات وعلى رأسها المتحف الوطني، ليتعرفوا مباشرة على الحدث التاريخي ويعاينوه عن قرب". ويرى أن الحل هو في اعتماد استراتيجية التعلم النشط التي لم تدخل بعد بقوة الى المدارس اللبنانية.
قصور ثقافي
كما يرى حلاق ان عدم اكتراث اللبنانيين بالمتحف وأهميته، وعدم معرفة بعضهم به حتى، لا يعكس الا حالة من "القصور الثقافي" في لبنان، فـ"ثقافة الاطلاع غير موجودة لدينا، لان المدارس التي تعلم فيها اللبنانيون لم تعوّدهم على هذا النمط من الزيارات ولأن الشعب اللبناني مشغول بأشياء أخرى". ويحمّل حلاق مسؤولية القصور الثقافي الذي يعيش فيه المجتمع اللبناني لوزارات التربية، السياحة، والثقافة، والتي من شأنها ان تلعب دوراً بتفعيل نشاط المتحف والدعاية له، فـ"العمل الدعائي القوي الذي يعرّف الناس على ما يوجد في لبنان من آثار بشكل عام وعلى المتحف بشكل خاص غير موجود".
لمحة تاريخية
بدأت ولادة المتحف الوطني، بقطع أثرية جمعها الضابط الفرنسي ريمون ويل سنة ١٩١٤ ، والذي كان متمركزاً في بيروت آنذاك، وقد أودعت في البدء في قاعة في مبنى الراهبات الألمانيات في شارع بيكو بحيث أخذت القاعة صفة متحف مؤقت.وتم تدشين المتحف الوطني في موقعه الحالي في ٢٧ أيار ١٩٤٢ على يد السيد الفريد نقاش رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك، بعد أن استغرقت الأشغال لإتمامه مدة سبع سنوات من سنة ١٩٣٠ إلى سنة ١٩٣٧، وقد تم الإقرار على أن يكون المتحف المكان الصالح لعرض الأثريات التي تُكتشف على الأرض اللبنانية. وفي غضون ثلاثين سنة، تدفقت القطع المستخرجة من الحفريات مضافة إلى تلك التي وجدت قبل بناء المتحف، واستمتع زوار المتحف بمشاهدة قطع ثمينة من عصور ما قبل التاريخ حتى أواخر القرن التاسع عشر وذلك حتى سنة ١٩٧٥ تاريخ بدء الحرب اللبنانية. وشاء القدر أن يقف المتحف حاضن التاريخ، شاهداً على حقبة بشعة من تاريخ لبنان، ألا وهي فترة الاقتتال الداخلي على خطوط التماس، وأغلق المتحف أبوابه بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، واتُخذت تدابير أولية لحماية محتويات المتحف، آنذاك فنقل بعضها الى مستودعات داخل المتحف وخارجه، وتمت تغطية بعض التحف بطبقة من الاسمنت، أما القطع الكبيرة المتعذر نقلها، فقد حميت في البدء بأكياس رملية ومن ثم أحيطت بطبقة من الأسمنت المسلح، وأدت هذه الأوضاع إلى تلف بعض الصناديق التي تحتوي على قطع أثرية كما احترقت صور وخرائط ومستندات قيمة. و مع نهاية الحرب عام 1999 وجدت المديرية العامة للآثار أنها أمام مهمة شبه مستحيلة، ترميم المبنى، لملمة المحتويات، فهرستها، ثم عرضها في شكل عصري علمي حديث، وإعادة دور المتحف إلى أدائه السابق مع الإضافات التي استجدت. وتم ذلك بجهد كبير، فظهر البناء عام 1997 بواجهته الجميلة وكامل ألقه، وعاد قلبه نقياً نظيفاً واسعاً مع تقسيمات داخلية جديدة، وعوازل للصوت ومصاعد جديدة ونظام تكييف جديد يحفظ المحتويات من الحرارة والرطوبة.
نهلا ناصر الدين
البلد