لقد سجّل الرئيس فؤاد السنيورة، رئيس وزراء لبنان، نجاحاً غير مسبوق في مؤتمر باريس ـ 3 في ما تلقى من دعم مالي في شكل هبات وقروض، وفي ما وُجّه إليه من كلام الإطراء من المشاركين. ونحن بدورنا نهنئه على هذا النجاح الباهر خارج لبنان. أما في لبنان فقد نجح في عدم الالتفات إلى الانقسام الخطير الذي حلّ بالساحة السياسية وبالتالي الأمنية في عهده، فأثبت أن سياسة اللامبالاة هي السياسة الناجحة وسط التناقضات الفئوية التي تستبد بالواقع الشعبي.
لقد بلغ الوضع من التردي داخلياً ما بدد مفاهيم مصطلحات مثل الوطن والوطنية في بلدنا الصغير على مذبح الانقسامات الفئوية، المذهبية والطائفية. كنا في الماضي نشكو من سطوة الاعتبارات الطائفية في حياتنا العامة، فكانت الحرب القذرة على امتداد خمسة عشر عاماً، والتي انتهت باتفاق الطائف الذي من أبرز مضامينه ما نص عليه من آلية لتجاوز الحالة الطائفية. فإذا بنا، بعد سبعة عشر عاماً من الاتفاق الميمون، لم نشرع بإخراج تلك الآلية إلى حيز الوجود، لا بل غرقنا في أسوأ من حالة فرز طائفي، بتنا نتخبط في بؤرة فرز مذهبي مريع.
في لحظة من اللحظات، إثر الهزيمة التي منيتُ بها في انتخابات عام 2000 النيابية، وكنت آنذاك رئيساً للوزراء، أعلنت أنني قررت الانتقال من حيز العمل السياسي إلى حيز العمل الوطني. ومع علمي بأن العمل الوطني هو نشاط سياسي بامتياز في ما يقوم عليه من إطلاق مواقف والقيام بتحركات، فإنني حرصتُ على التمييز بين العمل السياسي والعمل الوطني، بالتأكيد على أن الاحتراف السياسي يقترن بالعمل من أجل الوصول إلى موقع أو منصب سياسي في النظام من مثل عضوية مجلس النواب أو حقيبة وزارية أو موقع رئاسي. أما العمل الوطني فمجرد من المآرب السياسية.
وبعد كل ما شهدنا أمس من انقسامات واشتباكات ذات طابع مذهبي تخللها صدامات وممارسات عنيفة مقيتة، أعترف بأنني أصبت بذهول لم آلف نظيره فيما مضى، وراعني كيف أن الإنسان في لبنان ينقلب بين لحظة ولحظة من طالب يحمل قلماً إلى مقاتل (حتى لا نقول قاتل) يشهر بندقية، وللحظة أخذت أسائل نفسي: هل بقي للوطن أو الوطنية معنى؟ وكيف ومتى تسترد هذه القيم معانيها في حياتنا العامة؟ يا لفظاعة ما وقع!
لا شك في أن هذه الحالة كانت الدرك الأسفل الذي بلغناه في حياتنا العامة بعد مسلسل طويل من الأخطاء والخطايا والزلل في إدارة علاقاتنا في مجتمع تعددي، ظننا لفترة من الزمن أن تعدديته هي مصدر غنى له. فكان من عبقرية اللبناني أن جعل الموقف لا بل الانفعال في خدمة الانقسام السياسي والاجتماعي بين أفراد الشعب الواحد، فإذا بنا أمام معركة بائسة بين الفئات اللبنانية. أخطأت المعارضة يوم الإضراب والتظاهر إذ استخدمت وسائل حرق الإطارات وقطع الطرقات وفرض الإغلاق على الغير عبر ممارسات تصعيدية سافرة في الشوارع. فجاءت ردة الفعل بعد يومين في فرز مذهبي سافر تخلله صدامات بالعصي والحجارة وأخيراً بالبنادق الحربية، فسقط ذاك العدد المريع من القتلى والجرحى بين الشباب اللبناني، كما تعرضت بعض المرافق المدنية والتربوية للتخريب والتكسير. والفضل في التصدي يعود لقيادة الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي التي أفلحت في مقاومة هذه التجاوزات والجرائم وإعادة الأمور، ولو ظاهراً، ولو آنياً، إلى نصابها.
بعد كل ما حصل من حقنا وحق أمثالنا التساؤل: إلى أين نحن سائرون؟
الجواب هو إلى المجهول في ظل معطيات لا تبشر بمخرج جاهز. فإذا كان الوضع الحكومي محور المشكلة، فإن الحكومة عادت من مؤتمر باريس ـ 3 معززة المكانة دولياً واكتسبت منعة في الداخل اللبناني بما لقيت من دعم متميز وغير مسبوق في شخص رئيسها. وفي المقابل فإن أحداث الأيام الأخيرة كان من شأنها اشتداد الحملات على هذه الحكومة ورئيسها من جانب القوى المعارضة. وليس بين الفريقين المتنازعين من أضحى على استعداد للتنازل عن موقفه أو مطالبه. لذا الخوف من أن تكون البلاد أمام المجهول في المستقبل المنظور.
وهذا يعزز الاعتقاد لدى من يقول بأن الأزمة مرشحة للاستمرار حتى نهاية عهد الرئيس إميل لحود الممدد، أي حتى تشرين الثاني من العام الجاري، ويفصلنا عن هذا الموعد بضعة أشهر طويلة جداً يمكن أن تحبل بمفاجآت لا تُعرف أبعادها. ثم عند نهاية العهد الممدد لرئيس الجمهورية، في حال لم يمنّ الله تعالى على البلد بحل ناجع يعيد الأمور إلى نصابها، فإن بين أهل السلطة من يحلم بأن تتولى الحكومة الحالية بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي المسؤوليات والصلاحيات التي تعود لرئيس الجمهورية في حال لم يُنتخب رئيس جديد للجمهورية، والله أعلم متى نخرج من المأزق في ظل الانقسامات المستفحلة.
والأدهى إذا فكّر الفريق المعارض بمواجهة هذا الاحتمال بمطالبة رئيس الجمهورية في آخر لحظة من عهده بتشكيل حكومة انتقالية يرفضها أهل السلطة. فتتكرر، والعياذ بالله، التجربة المرّة التي عاشتها البلاد في عهد الحكومتين إثر عهد الرئيس أمين الجميل.
لا نملك إزاء هذه الاحتمالات إلا أن نسأل الله أن يرأف بهذا البلد وشعبه.
سنبقى في أي حال كما كنا دوماً من تجار الطائفية والمذهبية براء. شتان بين الدين والطائفية. الدين يجمع على قيم سامية مشتركة. أما المذهبية فعصبية، والعصبية تفرّق من حيث أن أصحاب العصبيات يتصادمون في سعي كل منهم إلى إلغاء الآخر. فنحن إذ ندعو إلى نبذ الطائفية والمذهبية فإننا ندعو إلى التمسك بأهداب الدين.