مع بداية فصل الخريف تستعدّ نساء القرى الجنوبية لتحضير أصناف متعدّدة من المؤونة الشتوية منها المجفف و «المكدوس» في الزيت والخلّ والملح والحلو.
يقوم أبو حسين من بلدة عرمتى بتحريك القمح في «دست» كبير على موقد الحطب تساعده زوجته بإشعال النار، يقول لـ «السفير»: «بعد نضج القمح نجففه بعد فلشه على السطح تحت أشعة الشمس ليصار إلى تنقيته على طاولة خشبية حيث تجتمع النساء، ومن ثم يُصار إلى جرشه في مطحنة البلدة ليتحوّل إلى برغل ناعم يستخدم في صنع الكبة والتبولة»، مضيفاً «يبلغ سعر كيلو البرغل الجاهز من السوق أربعة آلاف ليرة وهو أغلى من البرغل البيتي الطازج وذات النوعية الجيدة أي بفرق ثلاثة آلاف ليرة.
كفرمان تشتهر بزراعة الملوخية ذات الطعم المميّز مقارنة مع الملوخية المستوردة، برغم سعرها المرتفع الذي يصل إلى الخمسين ألف ليرة، وتزرع في سهل الميذنة في تربة خصبة وتقطف على ثلاث دفعات لتجفف أوراقها لحين الاستخدام. أيضاً لمؤونة الشتاء أصناف عديدة منها المكدوس في الزيت وغالباً ما يتم تناوله على طعام الفطور إلى جانب البيض المقلي.
في بلدة الزرارية تحضّر أم رضا زرقط الباذنجان الأبيض الموشح باللون البني، حيث ملأت المكدوس بأكياس مشبّكة وضعتها في حلة كبيرة تحتوي على المياه الباردة وغطت سطحها بخام أبيض، ثم وضعت أثقالاً على القماش وعلى موقدة الحطب وضعت الحلل الكبيرة أو ما يُسمّى «الدست». وبعد نضج الباذنجان يوضع في ماء بارد ويُحشى بالجوز والفلفل الأحمر ويغطّس في الزيت لحين استخدامه، كفطور تراثي أصيل إلى جانب اللبنة «المكعزلة».
اللبنة «المكعزلة»
في قرية بريقع المجاورة للزرارية تملك أم علي أربع عنزات تعتمد عليها في إنتاج الحليب لتصنّع اللبنة. وتقول: «أحضّر اللبنة من حليب الماعز لأنه يعد من أجود أصناف الحليب. بعد ترويبه أي تحويله إلى لبن، أصبّه في أكياس قماش مع ملح ثم تجف اللبنة فأدعكها بيدي جاعلة منها كرات أمزجها بالفلفل الأحمر أو الصعتر وحبة البركة وتكبس بزيت الزيتون في أوانٍ زجاجية، وتستخدم الطريقة نفسها لتحضير الكشك الأخضر باستثناء أن الأخير يحتوي على البرغل المطحون، ولكن بنكهة مختلفة».
من جهتها تخبر غادة جارة أم علي عن طريقة مختلفة لتحضير اللبنة وتسمّى «لبنة الجرة» أو لبنة الظرف سابقاً (والظرف عبارة عن جلد البقر توضع فيه اللبنة على مدار السنة). تستأنف غادة الشرح بقولها: «أضع حليب البقر أو الغنم داخل جرة فخارية كبيرة مخصّصة لهذا النوع من اللبنة ثم يضاف اللبن إليها، بعد أسبوع أضيف إليها حليب القريشة البقري مع الملح الخشن حتى يطوف اللبن أعلاها ويصفّى الماء من أسفله بعد بزلها، أي سحب الخشب لتفرغ المياه وتبقى اللبنة في الجرة لحين استخدامها طوال الشتاء. وعندما تنقص الجرة في كل مرة أضيف الحليب إليها».
أما البندورة فلها حكاية أخرى عندما تحضّرها رباب في عين قانا، حيث تقوم بغسلها وتقطيعها وتُطحن ناعماً وتعبّأ في «مراطبين» محكمة الإغلاق وتضعها في ماء بارد ثم تغليها على النار لمدة نصف ساعة ثم تبرّد لحين استخدامها فتضيف نكهة مميّزة على الأطعمة المحضرة كالشكشوكة. كذلك رب البندورة الخالي من المواد الحافظة تقوم رباب بغسل البندورة وتجفيفها ثم طحنها وتصفيتها من البذور ثم تقوم بغليها على موقدة الحطب حتى تجمد وتمدها تحت أشعة الشمس لتجفّ ثم تعبّئها بمراطبين وتستخدم مع التبولة فتمنحها طعماً مميزاً.
دبس الرمان
على مدخل منزلها في زوطر تقطف أم داني أشجار الرمان التي تلمع حباتها تحت أشعة الشمس كأنها ياقوت أحمر، لتعصرها وتغليها على موقد الحطب حتى يعقد الرمان ويصبح دبساً يُضاف إلى مختلف الأطعمة كالفتوش والملوخية، كما توزع أم داني قناني الدبس على عائلتها وأصدقائها لتشاركهم مذاقها اللذيذ الذي يجمع بين الحلاوة والحموضة. وتعكف على هذا التقليد السنوي برغم توفر الدبس في الأسواق فهي تفضل الدبس البلدي الخالي من المواد الحافظة.
كما يُعتبر القمح المسلوق والبرغل من أساسيات المؤونة كونه يدخل في أطعمة عدة ومنه يصنع الكشك. حركة نشطة للنساء على سطوح منازل كفرتبنيت تضم الكشك والبرغل والتين المجفف والمكدوس ورب البندورة واللبنة.
بالقرب من بساتين الحمضيات في الجنوب تجتاحك رائحة زهر الليمون الذي يصنع منه ماء الزهر المعطّر ويستخدم في صناعة الحلويات الشرقية، إضافة إلى ماء الورد وهي من المقطّرات المصنّعة جنوباً، ومنها: القصعين والزعرور والشومر وإكليل الجبل لاستخدامات طبية وصحية وغذائية. ولا تزال الكثير من العائلات الجنوبية تفضل المربيات المنزلية على المصنّعة كالسفرجل والمشمش واليقطين وتسمّى عضوية. وهي من المؤونة الحلوة أي «التحلاية».
كثيرة هي أصناف المؤونة الجنوبية البيتية ومتنوعة كالخضار المجفف كاللوبيا والباميا وغيرها، هناك ورق دوالي العريش أو العنب والتي تعتبر من المقبلات اللبنانية الشهية. المؤونة الجنوبية جزء من التراث اللبناني العريق الذي يحافظ عليه الجنوبيون، برغم توافرها في المتاجر واجتياح الأطعمة السريعة لبنان، تبقى المؤونة البيتية هي التراث السنوي التقليدي لموروث تحافظ عليه الأجيال.
زينب ضاهر
السفير بتاريخ 2015-10-07 على الصفحة رقم 5 – إقتصاد