أمام مسيرة عاشوراء التراثية في النبطية تُطلّ سيارة (البيجو) البيضاء، تُخيّل إليك بمشيتها الثقيلة وقماشها الأسود المتدلي من جانبيها وبالأطفال الجالسين على غطائها الأمامي، بأنها أرملةٌ ثكلى تذرف الدمع بصمتٍ على عزيزها وتحتضن صغارها..
تفاصيل صغيرة حرصت سيارة عاشوراء أن تُحافظ عليها، خِرقٌ من القماشٌ الأسود مفروشةٌ على غطاء مولّدها ومربوطة عند طرفيها بمرآتي السيارة، ومصباحَي إسعاف برتقاليان يستديران ببطىء على السقف يتوسطهما بوق صغير ينسابُ صوته المبحوح بين صخب الناس ويجتاز سمعك الى جوف قلبك حاملاً حِداء المعزيّة (حسيبة) وهي تُردّد ( قاسم يا عِرّيس اللما تهنّا.. لا ذاق الزفاف يا يُمّى ولا تحنّى).. أو صوت المرحوم الحاج حسن كحيل وهو يصدَح بأهزوجة: "يا ناقتي"
في لحظة يدفعك فضولك لتتعرّف على سائق (البيجو) المختبىء خلف القماش الأسود وجمهور الأطفال المتكدّس أمام زجاج السيارة، فتدسُّ رأسك بين الجموع لترى رجلاً خمسينياً نحيل الوجه أسمر البشرة سمحُ المُحيّا هادىء الطبع، يُخرج سيكارته من فتحة شُباك السيارة، وما يُلفتك في هذا السائق رضاه الكبير بكل "العجقة" من الأطفال أمامه!
" الإسم الكريم؟" سألته بعد أن عرّفته بنفْسي، "محمود زهري" أجاب مبتسماً.. لم أستطع أن أُنتظر طويلاً لأساله سؤالي الذي أحمله منذ طفولتي: " ليش هالولاد بيقعدوا عالسيارة؟".. يأخذ نفساً عميقاً من سيجارته ثمّ يبدأ بسرد الحكاية..
"هيدي حكاية عمرا أكتر من تلاتين سنة، من أيام الإجتياح.. إلك خلق تسمع؟"
" أنا كلني سمع" أجيبه
يقول محمود سائق (البيجو) أن السيارة قدمّها أواخر السبعينيات الحاج هاني المقدّم كإسعاف تخدم الناس وتسعف المصابين والجرحى، وكانت حاجة ملحّة آنذاك بسبب القصف الإسرائيلي اليومي على النبطية وما يخلّفه من جرحى ومصابين.. أيام عاشوراء أحضرنا هذه السيارة لتتقدم مسيرة (الندّيبة).. كان الأهالي يُصرّون على إحياء الذكرى غير آبهين بكلّ المخاطر الحقيقية المحيطة.. حتى الأمّهات كُن يحضرن صغارهن الى المسيرة.. أما السيّارة فكانت ملاذا للأطفال، هو ملاذٌ نفسي أكثر منه حقيقي، تجيء الأمهات بأطفالهن قرب السيارة فإذا ما اشتدّ القصف أدخلن الأطفال فيها لتهرع بهم بعيداً عن حِمم الموت الإسرائيلية.. وهكذا تحولت هذه السيارة مع الأيام الى سيارة الأطفال في عاشوراء، ربما كفعلِ وفاءٍ للسيارة التي واكبت مسيرة صمودهم العاشورائية..
هكذا ارتقت سيارةٌ هرمةٌ لتصير رمزاً وأيقونةً.. ويصير سقفها وغطاءها الصدئَيْن مساحة رحبة للذكرى يحملُ الآباء إليه أطفالهن ليقصوا عليهم حكاية العشق المتوارث للحسين عليه السلام ويغرسوا في صدورهم النديّة معاني الولاء والكفاح فتربو وتُثمر إيماناً ورجولة وصفاء.