يشكل الموقع المختار واجهة بحرية للكهوف ما قبل التاريخية التي تضمّها أراضي البلدة، والتي تُعدّ إحدى أهم المواقع التاريخية على الساحل اللبناني، على بعد مئات قليلة من الأمتار والمعرّضة للخطر نتيجة التعديات التي تعود إلى عقود مضت ولا زالت قائمة ومتواصلة. وهو ما يهدّد موقعاً حضارياً إنسانياً نادراً بالتلف والزوال.
كما من شأن تنفيذ مشروع المرفأ في هذا الموقع، أن يؤدي إلى تدمير موقع حضاري غاية في الأهمية. علاقة الكهوف والمدينة الفينيقية التي كانت قائمة ولم يتبقَّ منها سوى المغاور التي تعود إلى تلك الحقبة والأحواض الفينيقية، حيث سيقوم المرفأ على ردمها، موضوعان سنتناولهما على حلقتين، في دعوة إلى تحرّك عاجل لحماية عدلون وشاطئها ومرافئها وكهوفها والدعوة إلى وضع سياسة تنموية تنهض بالبلدة وتُعيد الاعتبار إلى مواقعها التاريخية والحضارية الفريدة.
تجدر الإشارة إلى أن جمعية «الجنوبيون الخضر»، تقدّمت نهاية السنة الماضية بكتاب ومقترح إلى وزارة البيئة وآخر إلى وزارة الثقافة تطالب فيه بالتدخل لحماية الشاطئ وإعلانه محمية طبيعية وتراثية، خاصة أن الشاطئ يُعَدّ، إلى كونه موقعاً أثرياً، أحد مواقع تعشيش السلاحف البحرية المهددة بالانقراض كذلك تعيش في مياهه مجموعة من السلاحف البحرية المقيمة.
عدلون في العصر الحجري
منذ منتصف القرن التاسع عشر، شهدت عدلون على الساحل الجنوبي اهتماماً متزايداً لمواقعها التاريخية، على الرغم من أعمال الحفريات التي بقيت محدودة ومتقطعة زمنياً، أن تصنف كأحد أهم المواقع التاريخية على الساحل المتوسطي الشرقي منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى مراحل متقدمة من الحقبة البيزنطية. لم يكن عالم الآثار الفرنسي الأب اليسوعي غوديفري زوموفِن (1848-1928)، أول من أشار إلى عدلون من خلال أعمال الحفريات التي قام بها في مواقع كهوفها مما قبل التاريخ، بل الحقيقة أن زوموفن إنما دفعه إلى استطلاع الموقع والتنقيب فيه الاهتمام الذي حظيت به مواقع عدلون في وقت مبكر مع بعثات التنقيب ورحلات المستشرقين إلى المنطقة. حين عاد أرنست رينان (1823ـ 1893) أواسط القرن التاسع عشر من أسفاره في بلاد الشام وسوريا وكان قد أشرف على عدد من الحفريات من بينها تلك التي بدأت في صور التاريخية العام 1861 ومنطقة شلعبون نواحي عين إبل وأم العُمد على تلال الناقورة، كتب «إن كان لي أن أختار موقعاً للحفريات في فينيقيا، بعد أم العواميد، سأختار عدلون». لم يكن رينان، الذي عُني بتلك الحقبة الكنعانية - الفينيقية والمسيحية الأولى، يشير إلى الكهوف وفي محيطها كانت المغاور والمدافن الفينيقية والرومانية والبيزنطية ظاهرة للعيان وحسب، بل إلى دور عدلون المتواصل في تلك الحقبة أيضاً. لاحقاً زار الموقع العالم الجيولوجي لويس لارتِيت (1840 ـ 1899) (إبن العالم الجيولوجي إدوارد لارتيت) الذي شارك في حملة التنقيب والبحث في البحر الميت 1863، وقد قادته آثار الأدوات الصوانية التي وجدها مدفونة على مدخل كهف بزيز إلى افتراض يذهب أبعد من رينان، مقترحاً أن الموقع يضم «محطة كهوف» ما قبل تاريخية.
زاموفين وغارود
لاحقاً، بدأ زوموفن حفرياته الأولى في الموقع في العام 1898 ثم 1900 ثم 1908. وقد لحظ زوموفن نتيجة الأدوات التي وجدها أهمية عدلون في كتابه «فينيقيا قبل الفينيقيين: «العصر الحجري» (La Phénicie avant les phéniciens: l›âge de la pierre,1900 ووضعها على خارطة لبنان الجيولوجية كأحد أهم المواقع ما قبل التاريخية في لبنان (Géologie du Liban, 1928 وكان ذلك من ضمن جهود أوسع تابعها الآباء اليسوعيون منذ أواخر القرن التاسع عشر للكشف عن تاريخ تلك الحقبة ومواقعها.
في العام 1954، وبعد أن قرأت ما كتبه زيموفين، زارت عالمة الآثار البريطانية دورثي غارود (1892 ـ 1968)، الجامعة اليسوعية واطلعت على مكتشفات حفريات عدلون التي استرعت انتباهها. وخلال أربع سنوات بدأت غارود، تعاونُها عالمة الآثار ديانا كيربرايد (1915 ـ1997)، أهم حفريات منهجية شهدها الموقع (1958-1963)، وبشكل رئيس كهفي بزيز (الأكبر بينهما) وزوموفن (الأسم الذي أعطته غاورد للكهف تقديراً لإسهامات زوموفن)، فضلاً عن حفرياتها في كهوف نهر الكلب، وقد صنفت غارود، في كهف بزيز، 25 طبقة جيولوجية جرى تقسيمها إلى ثلاث وحدات أثرية مختلفة صنفت كطبقات، وخلُصت إلى أن الكهفين سُكنا في الفترة المبكرة من العصر الحجري الأوسط (90 ألف سنة_) (Garrod, D, The Middle Paleolithic of the Near East and the Problems of Mount-Carmel Man. Journal of the Royal Anthropological Society,1962, 92 : 232-51.(.
ولكن وفاة غارود في العام 1968، قبل نشر خلاصة حفرياتها، والتي أوصت بمتابعتها، أدى إلى إيقاف العمل. كذلك تأخر نشر النتائج لأسباب عدة وإن كانت مطالعة أولى قد نشرت في 1978 عرضت لأولى النتائج (Copeland L.,The Middle Palaeolithic of Adlun and Ras el Kelb (Lebanon) : First results from a study of the flint industries, Paléorient, 1978, vol. 4. إلى أن صدر كتابAdlun in Stone Age: The Excavations of D.A.E. Garrod in the Lebanon, 1958-1963 في العام 1983 والذي ضم نتائج حفريات غارود.
التسلسل الزمني للسكن الأول
في مقدمة الكتاب، السالف الذكر، التي وضعتها عالمة الآثار سوزان دو سان ماثورين، تعرض لأهمية مواقع عدلون في تأكيد مقاربة غارود التي سعت لها في بناء تسلسل زمني لحقب العصر الحجري القديم. شكلت كهوف عدلون الحلقة التي كانت حتى لحظة اكتشافها مفقودة في سبيل إيجاد ذلك التسلسل الزمني لمواقع النشاط الساحلي المتوسطي الشرقي وبلاد الشام، من مواقع كهوف الكرمل. وقد أسهم في تحقيق ذلك خصوصية امتاز بها الشاطئ اللبناني سمح بتتبع آثار تلك الحقبة (الحجري القديم والقديم الأوسط)، والتي لم تكن متاحة في مواقع البحر الميت والساحل الفلسطيني جراء عاملين أساسيين، على ما تذكر سان ماثورين، التصدّعات في وادي الأردن والترسبات الناتجة عن دلتا النيل. فيما حافظ الساحل اللبناني على استقرار نسبي في تضاريسه كما أسهم تشكّله من الحجر الجيري على تشكل الكهوف والمآوي لسكن الإنسان خلال تلك الحقبات المبكرة.
كانت غارود قد أنهت دراستها حول مواقع جبل الكرمل في فلسطين بالدعوة إلى بلورة تسلسل زمني للعصر الجيولوجي الحديث «( Garrod, Dorothy A.E., and Dorothea M. Bate. 1937. The Stone Age of Mount Carmel. Oxford: Clarendon Press)، التسلسل الذي وجدته يتحقق كلما بلغت طبقة جديدة من طبقات كهف البزيز. تعلق دو سان ماثورين، بأن الاكتشافات الأحفورية على الشاطئ اللبناني في عدلون قد وفّرا لمقاربة غارود هذا التسلسل وسمحا برسم خارطة جيولوجية لحقب العصر الحجري.
لقد شكلت جيولوجيا الشاطئ اللبناني، والعدلوني في هذه الحالة، عنصراً أساسياً في توفير مأوى لاستقرار الإنسان وتطوره تباعاً على مقربة منه. وفي حالة شاطئ عدلون فإن الكهوف والشاطئ القريب تُعدّ جزءاً من موقع واحد لا يمكن الفكاك بينها. وهذا ما سيقودنا إلى فهم التطور الذي تواصل متوالياً خلال الحقبات الحضارية التي توالت.
هشام يونس
السفير بتاريخ 2015-11-10 على الصفحة رقم 8 – بيئة
http://assafir.com/Article/455782