وقد لعبت هذه المجموعة دوراً حاسماً، في فك رموز الكتابة المسمارية، كما أنها أرخت لأوضاع تلك الحقبة أحوال الممالك التي تناولها ملوك الأشوريين بالغزو ومن بينها ممالك مصر وأرض كنعان، فينيقيا ومدنها.
من بين تلك المخطوطات موشور أسرحدون Esarhaddon Prism (680-669ق.م) الملك الرابع عشر من ملوك الإمبراطورية الآشورية الحديثة (والد آشور بانيبال)، ومعاهدة أسرحدون 675 ق.م. مع بعل ملك صور، في تلك الحقبة، والتي وجُد لها نصٌ آخر محفور عند نهر الكلب. وقد أتى فيها على ذكر ست عشرة مدينة من بينها المدينتان اللتان كانتا خاضعتين لمملكة صيدون، مآروبو (عدلون) وسربتا (الصرفند). ونصت المعاهدة على ضم المدينتين إلى ملك صور بعل بعدما كانتا خاضعتين لملك صيدون على أثر انتفاضته ضد الآشوريين.
واللافت أن ذكر عدلون، سيأتي بعد ذلك وفي معظم الأحيان، مع ذكر سَربتا (أو زربتا) الصرفند اليوم، والتي تبعد قرابة 6 كلم شمال موقع عدلون الحالي. لم تعالج طبيعة العلاقة التي كانت بين المدينتين الشقيقتين وقد يكون مرد ذلك إلى شح الحفريات والمصادر. وفيما تردد ذكر سربتا في أكثر من مخطوطة تاريخية في إشارة للدور الهام الذي لعبته على مدى عصور متعاقبة، كما خلصت الحفريات التي جرت في مواقع عدة منها بين عامي 1969 و1974 والتي قدرت تاريخ نشأتها إلى 1600 قبل الميلاد (العصر البرونزي ـ العصر الحديدي)، وإن كان البعض يعيدها إلى الألف الثالث قبل الميلاد بالاستناد إلى مدونات مملكة إيبلا التي ورد فيها ذكر Ṣa-ar-pa’at (ليست مجال بحثنا في هذه المقالة)، فإن الإشارة إلى مآروبو Ma’rubbu (عدلون المعاصرة) كان، لغاية تلك الحقبة، أول إشارة إلى أهميتها التي شهدت نشاطاً هائلاً لمدن الساحل وممالكه كجزء من العالم الفينيقي الذي سينتشر ما وراء البحار بانياً حدوداً من المستوطنات التي سيتحول بعضها إلى ممالك كبرى على السواحل المتوسطية ويسمح لكل من مملكتي صور وصيدا بلعب دور كبير على الحوض المتوسطي، ومعهما مدنهم التابعة ومن بينها المدينتان الوحيدتان اللتان يرد ذكرهما في المنطقة الفاصلة بين المملكتين، سربتا ومآروبو.
علماً أن المغاور المدفنية المنتشرة في عدلون ونواحيها والتي تعود إلى حقب مختلفة من الفينيقية (الألف الأول قبل الميلاد) إلى البيزنطية، حملت مؤثرات فرعونية واضحة تعود إلى الأسر الثامنة (القرن السادس عشر ـ القرن الثالث عشر ق.م.) والأسرة التاسعة (القرن الثالث عشر ـ القرن الثاني عشر ق.م.)، وهو ما يجعل تاريخ نشأة المدينة مقارباً زمنياً لتاريخ نشأة سربتا. كذلك تؤشر الملاحات التي كانت منتشرة على امتداد الشاطئ في الصرفند وعدلون والتي جرى تدميرها بشكل شبه كامل، والتي لا زال يوجد العديد منها على استهلاك محلي ونشاط تجاري، خاصة إذا عرفنا أن الملح في تلك الحقبة استعمل في المبادلات التجارية (كانت الإمبراطورية الرومانية تدفع رواتب جنودها مقادير من الملح)، وفي حالات عدة نقل الفينيقيون تقنية تجفيفه إلى مستعمراتهم.
أورنيثوبوليس مدينة الطيور
على الرغم من فترة الغزوات التي شهدها الساحل، وفي مؤشر على أهميتها ورسوخها، حافظت عدلون على حضور متواصل نقلته الحوليات والنقوش العديدة. فقد ورد ذكرها في موسوعة العالم الجغرافي اليوناني سترابو (63/64 ق.م ـ 24 م.) (Strabo, Geography, (XVI, 2, 24) أوائل القرن الأول ميلادي باسم أورنيثوبوليس OrnithonPolis أو مدينة الطيور وتكرر ذكرها في الربع الأخير من القرن الأول إلى جانب سربتا في كتاب المؤرخ الروماني الأشهر بليني الأكبر (25- 79م.) «التاريخ الطبيعي» (Pliny, Natural History V.75-76, 77-79 AD) وقد أعاد العديد من علماء الآثار والمؤرخين المعاصرين الاسم إلى عدلون وهو الرأي الأكثر شيوعاً. ويرجح أن اسم أورنيثونبوليس استخدم من القرن الرابع قبل الميلاد وحتى فترة غير متحققة من القرن السابع ميلادي. فيما ظهر استخدام اسم «آد نوم» Ad Nonum من القرن الرابع الميلادي وحتى القرن السابع. أما الاسم المعاصر «عدلون» فيرجح أن استخدامه بدأ منذ بداية القرن الثامن عشر، كما أورده الرحالة الجغرافي ياقوت الحموي (1179-1229( في «معجم البلدان». وعلى ما يبدو أنه تحوير للاسم السابق «آد نوم».
اللافت أن المدينة مع شقيقتها سربتا لعبت دوراً هاماً ابان العصر المسيحي الأول لم ينل الاهتمام الذي يستحقه. حيث يرد ذكرها أكثر من مرة سواء في العهد الجديد أو الكتابات التاريخية التي رافقت العصر الأول أو التي أرّخت له لاحقاً. يشير بعضها إلى وجود أتباع وتلاميذ المسيح في المدينة كان يُعتمد عليهم. وأخرى تشير إلى أن المسيح زارها ونواحيها وتردّد عليها أتباعه والحواريون، بل إنه قد يكون استخدام أحد مرافئها. ومن بين تلك الكتابات التي تعرض لزيارة المسيح إلى أورنيثوبوليس تلك التي ورد ذكرها في سردية القديسة آن كاثرين إمريك التي نظمها وحررها الأب كارل شومخر في أواخر القرن الثامن عشر. والموضوع يحتاج إلى عناية وتحقيق أكبر.
هوية المدن الفينيقية مرافئها
إن أهمية وغنى تاريخ عدلون والصرفند يعيدنا إلى دورهما التجاري بشكل رئيسي وهذا يرتبط بشيئين أثنين، الصناعات التي كانت قائمة والنشاط التجاري، وكلا الأمرين يعودان بنا إلى مرافئهما. ثمة أدلة عديدة وجدتها حفريات سربتا تؤكد وجود مصانع للزجاح الذي كان رائجاً في المدن الفينيقية الكبيرة في صور وصيدا وجبيل وأرواد ... فضلاً عن صناعة الأرجوان والسفن والملح. ولعل هذا ما يفسر أهمية المرافئ في المدن الفينيقية التي تشكل هويتها.
يشرح عالم الآثار واللسانيات الإيطالي سابتينو موسكاتي في كتابه «عالم الفينيقيين» طبوغرافيا المدن ـ الممالك الفينيقية التي درج الفينيقيون على إقامتها على الساحل سواء على رأس صخري أو جزيرة قريبة منه، ولها مرفأين شمالي وجنوبي وذلك للتعامل مع اتجاه الريح وتبدل الفصول. وكانت المرافئ ضرورة ليست فقط للتجارة خلف البحار أو المدن الأخرى والممالك الأخرى وإنما كذلك للملاحة والمواصلات بين المدن الفينيقية ذاتها بحكم الطبيعة الجغرافية للساحل والتي كانت تجعل الملاحة في أوقات عدة أيسر وسيلة للتواصل والنقل.
وبهذا المعنى كانت المرافئ في المدن الفينيقية جزءاً رئيسياً من بنية المدينة وتخطيطها العام، وتعكس بشكل كبير حجمها ونشاطها التجاري وبنيتها الاجتماعية. وبالتالي فإن أحد أهم دلائل ومؤشرات تاريخ عدلون التاريخية في حقبة العصور التاريخية ( البرونزية – الحديدية) هو مرافئها التي أقيمت على الشاطئ في الموقع ذاته الذي تطل عليه كهوفها ما قبل التاريخية وهو ما يجعل من موقع الشاطئ مُشتركاً بين حقب تاريخية تمتد لغاية تسعين ألف عام بالحد الأدنى بالنظر إلى أن الحفريات في الكهوف، على ما سبقت الإشارة، لم تنتهِ.
كي لا ندمّر الآثار الباقية
في دليل على تلك الأهمية والحيوية التي شهدتها عدلون خلال الحقب المتوالية، يؤكد باحث الآثار الدكتور نيكولاس كاريون الذي زار عدلون في السنوات الماضية ووضع بحثاً حول مرافئ عدلون الفينيقية مدعماً بخرائط، على وجود مواقع لثلاثة مرافئ فينيقية على ثلاثة خلجان صغيرة على شاطئ عدلون، كما يؤكد وجود ثلاثة أيضاً في سربتا. يشاركه الرأي في ذلك الباحث الدكتور نيك مارينير الذي وضع أكثر من دراسة تتعلق بالمرافئ الفينيقية وأتى على ذكرها في سربتا وعدلون.
وفي مقارنته بين مواقع المرافئ الثلاثة ومخطط المرفأ السياحي المزمع إقامته، يقول كَاريون (ويوافقه مارينير) «أن المشروع سيدمر مواقع المرافئ الثلاثة». ويضيف «أن الموقع يمتاز بإمكانيات أثرية وتاريخية هائلة»، مشيراً إلى المصادر التاريخية العديدة التي تؤكد «أن عدلون لعبت دوراً منذ الألف الأول قبل الميلاد ابان الحقبة الفينيقية وحتى عصور مـتأخرة. وإن تدمير الموقع يحرمنا من فرصة لاكتشاف تاريخ المدينة والمنطقة خاصة أن الآثار التي لا زالت ظاهرة على طول الشاطئ تشير إلى نشاط تجاري وأعمال تتعلق بالمرفأ والصيد البحري»، محذراً من أن ذلك يشكل «كارثة ثقافية». بالمحصلة، نحن أمام مدينة وموقع تاريخي غني وحيوي وهام، فضلاً عن أنه موقع بيئي غني ومتنوع على ما سبقت الإشارة، ولم يحظَ بأي إهتمام يُذكر. بل على العكس من ذلك تواجه البلدة ومواقعها التاريخية إهمالاً مزمناً وتشهد تعديات متواصلة تهددها بالزوال مما يشكل كارثة ثقافية وتاريخية حقيقية. بالاستناد إلى ما ورد، فإنه من المؤكد أن موقع شاطئ عدلون لا زال يضم آثاراً تعود إلى حقب تاريخية عدة ولعل أهمها المرافئ أو المراسي الفينيقية الثلاث التي عرضنا لها والملاحات وأحواض بناء وإصلاح السفن والصناعات الحرفية الأخرى والتي لم يجر فيها إلى اليوم أي أعمال حفريات. ولكنها وفي قسم كبير منها لا زالت في حالة جيدة قابلة للدراسة وإجراء أعمال التنقيب والتأهيل لتكون محمية بيئية وتراثية وموقعاً ثقافياً كبيراً، بل لعله يكون أحد أهم المواقع في تلك المنطقة، خاصة بعد أن جرى تدمير معظم شاطئ الصرفند على مدى عقود بالتعديات والبناء العشوائي.
هشام يونس
السفير بتاريخ 2015-11-17 على الصفحة رقم 8 – بيئة
http://assafir.com/Article/456999